رعيّة رشدبّين

مواضيع وتأملات لاهوتية

أحد الشعانين

غريبٌ إحتفال الشعانين!
عيدٌ إحتفاليٌّ بإمتياز، يبدأ بالتغاريد وهتافات “المجد لله! تبارك الآتي بإسم الرّب. تبارك ملك إسرائيل” (آ:13)، وينتهي بالصّراخ:” إصلبه إصلبه!”.
ما بال تلك الجموع تنقلب عليه بين ليلةٍ وضُحاها؟ غريبٌ أمرها!
اليوم تهتف على أنّه الملك المخلّص، حتّى ولو كان راكبًا على “جحشٍ إبن أتان”، آخذةً من ملائكةِ الميلاد نشيدهم (“المجد لله!”)، وغدًا تراه مجرمًا دون جرم ٍ وتستبدله بقاتل ِ القتلة “باراباس”!

كم من باراباس معاصرٍ يطلَق كلّ يومٍ من سجون خوفنا من الحقيقة، إلى ساحة قلوبنا وفكرنا. كم من باراباسٍ نبرّره خوفًا من ألسنة الآخرين، خوفًا من التّهميش، من التخلّي عن اللّذة على أشكالها وأنواعها وأهدافها… كم من باراباس نطلق اليوم مكان المسيح في حياتنا!

إنه يوم عيد سيدي، نحتفل فيه بألحان الفرح، قبل أن ندخل إلى ألحان الحزن . وفيه استقبل اليهود المسيح ملكًا على أورشليم، ويخلصهم من حكم الرومان، ولكنه رفض هذا المُلك الأرضي. لأن مملكته روحية… المسيح رفض أن يملك على أورشليم، ولكنه يفرح أن يملك على قلبك…
قلبك عند الله، هو أعظم من أورشليم . إنه هيكل للروح القدس ومسكن للّه. فكّر كثيرًا هل الله يملك عليك كلك: قلبك وفكرك وحواسك وجسدك ووقتك…؟
قل له تعال يا رب واملك. هوذا أنا لك… 
إن كانت مملكتك يا رب ليست من هذا العالم. فتعالَ. عندي لك مملكة تناسبك، تسند فيها رأسك وتستريح. لعلك تجد راحتك في قلبي. وإن وجدت فيه عصاة أو متمردين عليك… تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار. استله وانجح واملك.
لا تنشغل بالسعف في هذا اليوم، بل انشغل باستقبال المسيح في قلبك ملكًا عليه، فأنت تحتاج أن يملك الربّ عليك، لكي يدبر أهل بيتك حسنا.


جاكي جوزيف ضوميط

أحد آية شفاء الأعمى

ما مررت يومًا بأعمى ورأيت عيناه تسرحان حالمتان وهما تنظران إلى المدى البعيد كالبقيّة من الناس. ما لمحت واحدًا منهم إلاّ وإرتفع نظره إلى السماء، إلى فوق.
عمّا يبحث هناك؟ أعَنْ وميضٍ يلمع في ظلمة مصابيحه الفارغة؟ هل يبحث عن زيتٍ يأتيه من فوق فيملؤها كي تتلألأ وتنير له الدرب حيث تسمّر قسرًا فيها عند نقطة الإنطلاق، لإنعدام الصحبة الطيّبة تمسك بيده ليسلكا معًا نحو الهدف المرجو؟ إلامَ ينظر وماذا ينتظر؟
هناك واحدٌ حفظه لنا الإنجيل لجرأته، فكان هو الجواب على تلك النظرة التائهة في اللامحدود. إنّه “إبن طيما، برطيماوس، الأعمى إبن الأعمى”.

  رحمة فدَعْوَة
لقد عَلِمَ أنّ ما يرجوه بات قريبًا. وهو أعمى، تحرّك كيانه كلّه لشعوره بمرور يسوع، فصرخ بكلّ جوارحه إلى أن اخترق صراخه صرير وغوغاء الجموع المزدحمة قلب “المعلّم”. أعمى عرف كيف يتشبّث بما أوحت إليه به بذرة الإيمان الصغيرة الّتي بدأت تتفتّح في أحشائه ما أن سمع بما كان يصنعه “يسوع إبن داوود”. لقد قرّر منذ تلك اللحظة أن يحصل، برغبةٍ شديدة وإصرارٍ كبير، على تلك النعمة من الّذي وثق به قبل أن تبصره عيناه، نعمة الرحمة الإلهيّة الّتي تلمّسها بقلبه، بينما لم يرها الكثيرون وهم يبصرون، ولم يفهموا أنّ هذه الرحمة لا تعرف سوى الإنسان وكلّ إنسان.
لقد حصل على ما أراده، زيت مصباحه الّذي لطالما انتظره، فما كان من مفاعيل ذاك الزيت إلاّ أن إنتقاه من بين الكثيرين وذهب به إلى أبعد من الحاسّة لِيَلده رسولاً شاهدًا يحمل نورًا سماويًّا جديدًا بعينيه وفي قلبه لكلّ من لا يزال أعمى البصيرة، تاركًا كلّ شيءٍ وراءه ليتبع صاحب الحياة كلها.

  واليوم؟
ما هي صرختي إلى الله؟ عن أيّ زيتٍ أبحث؟
هل أدع رغباتي تسكت حاجتي للقاء الله (كتلك الجموع التي أسكتت الأعمى)؟
هل أتشجّع، أقف، أرمي معطفي وأقفز بحماسة الأعمى نحو من يناديني لأشفى؟
ما هو “المعطف” الّذي يسجنني داخله؟ هل آخذ الخطوة لأرميه وأتحرّر من وزره؟
هل أنتبه إلى سؤاله لي (“ماذا تريد أن أصنع لك؟”) الّذي يوقظ في داخلي رغبةً لا أجرؤ على طلبها؟ بماذا أجيبه؟

  أسئلة تستحقّ منّا وقفة تأمّلٍ مع “إبن طيما” أمام يسوع لنحصل على الجواب!


جاكي جوزيف ضوميط

أحد آية شفاء المخلع

قصّة أخرى من الشفاءات الكبيرة التّي أدهشت حشود القرى والمدن: شفاء مخلّع. ولكن من هو بطل قصّتنا اليوم؟
في كفرناحوم أي بيت الرّحمة، ملأت الجموع البيت حيث كان يسوع يعظهم بكلام الله، وازدحمت إلى حتّى سدّت كلّ منفذ إلى الداخل.
الجميع يسمع تعاليمه، الكلّ يصغي بتدَيُّنٍ طبيعي! كلّ شيءٍ يسير على ما يُرام. مشهدٌ متكامل.
فجأةً “يأتي إليه أربعة رجالٍ يحملون مخلَّعًا، عجزوا عن الوصول إليه لكثرة الزحام”(آ:3و4).
في المحلّة لم يتحرّك أحدٌ. ما من أحدٍ انبثّ ببنت شفة ولا علا صوت أحدهم كي يفسحوا المجال لمرور الجماعة الصغيرة نحو الدّاخل. ظهورٌ تكدّست فوق ظهورٍ أقسى من الحجارة، إنتصبت حيطانًا لا تسمع الأنين ولا ترى التخلّع ولا تشعر بالوجع، حبست يسوع في قوقعتها، وحجبت كنز رأفته وحبّه عن واقع الإنسان المتألّمِ وكأنّه أصبح ملكًا حصريًّا لها، ولها فقط….
وفي أفق الأنانية ذاك، تكشّفّ إيمان تلك الجماعة الصغيرة التّي تحمل حبيبها المخلّع. هو المعوّق الّذي سلبه المرض كلّ حركة، فبات غير قادرٍ على العمل، أو الإرتباط أو حتّى التسلية والتنزّه أو مساعدة الآخر عمليًّا. لقد تسمّر على صليب الإعاقةِ وتجمّدت معه الطموحات والأحلام، كما قد هجرته الأفكار الجميلة. لقد بات مرتبطًا بمحبّة الآخرين له.

نرى المخلّع يتنقّل بأقدام الرّجال الآربعة ويرى بعيونهم ويسمع بآذانهم التي رصدت مكان يسوع، فأتوه به. قبل أن يحملوه بقوّة أذرعهم، حملوه بقلوبهم، بصداقتهم. بتضامنهم حملوا سويًّا وجع من اتخذوه أخًا لهم، مظهرين كلّ رحمةٍ وحبّ: لقد آمنوا أنّ اللقاء الشخصيّ مع يسوع هو قادرٌ أن يغيّر حياة أخيهم، فلم يتردّدوا في أن يلتفوا من وراء الجموع المحتشدة.

و…أيّة جموعٍ تلك؟
جموعٌ مضيّقة على يسوع وحاجبة نظره وسماعه عن آلام الإنسان، لم تلحظ حتّى تلك الحالة الّتي تستدعي انتباه أيّ كان عند صعودهم بالمخلّع الدرج الخارجي للبيت. ما من أحدٍ من كلّ “الزاحمين” بادر بإفساح الطريق أمامهم! صعدوا السّطح ونقبوا وما من أحدٍ حرّك ساكنًا، وكأنّ عاهات الموت قد أصابتهم فأصبحوا كالعميان ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون، لهم أفواه “تخرسنت” وجسدٌ تشلّل. شيءٌ يثير التعجّب؟!.

من السّماء هبطت “خيمة” يستظلّ في فيئها متألمٌ صامتٌ ضاعت منه الكلمات على طريق “جبل طابور”. تبادُلٌ في النظرات، حديثٌ من القلب إلى القلب خيّمت عليه ثقة رجالٍ أربع بالربّ الشافي، أتت جميعها كي تجسّد كلّ ما كان يعلّم به يسوع عن ملكوت الله ورحمته الفائقة، فتفجّرت كحمَمِ البركان بعد سكونٍ طويل: هذه الرّوح المتّقدة في أحشاء هؤلاء الرّجال هي نفسها اليوم، توقظ في أعماق القلب الخاشع المصغي، ذاك الصوت الرّقيق الهامس الّذي يدلّنا عليه (على يسوع) في الآخر، يدّلنا إلى الذّهاب إلى حيث لا يقبله عقلنا المحدود بالمادّة، إلى “أبعد ما نعتقده مستحيلاً”. ما فعله يسوع أتى تأكيدًا على ما كان يعيشه هؤلاء الرجال في مساندتهم لبعضهم البعض. حملوه بإيمانهم، وبمسيرتهم قد تحرّر. بثقتهم المتبادلة وإيمانهم، تحرّر مريضهم من “ذنب” آبائه، مستعيدًا كلّ ما جرّدته منه التقاليد الظالمة والأحكام الجائرة، مكلّلةً بتعزيةٍ ما بعدها تعزية خرجت بكلّ الحنان من فم يسوع :” يا ابني”… لقد وُلِد من جديد وما عادت النظرات الحاسدة والمُدينة، ولا الكلمات الجارحة لها من سلطانٍ عليه: مع الجماعة، لقد ربح نفسه بغفران خطاياه، واستعاد حياته بشفاء تخلّعه، وفتح عينه على بنوّته لأبيه السماوي. ولادة جديدة من عَلو.

لنا نحن
في أيّ دائرةٍ نحن اليوم بالنسبة إلى يسوع النقطة الجوهرية؟ ليتموضع كلٌ منّا في المكان الذّي يرى نفسه فيه وليثق أنّ هناك الكثير ممّن يحيطون به كي يسلكوا سويًّا نحو الولادة الجديدة، ولا نخاف من تخلُّعنا بل من قلّة إيماننا، ولا من فقدان بصرنا بل من فقدان بصيرتنا، ولا من الآذان الّتي تتنصّت وتتعقّب تحرّكاتنا بهدف الأذيّة، بل من الحيطان الّتي تمنع آذاننا عن الإصغاء لكلمة الله وتشلّ عملنا وحركتنا في التقّدم صوب حضن الآب. آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

مثل الإبن الضال

ضرب يسوع مثلا (لو ١٥) عن إبنٍ ضالٍ، سعى في طريقه، متّبعًا أفكاره في الحياة، لا يُملِ عليه أحد ماذا يفعل، حرًّا طليقًا من أي قيد. طلب الإبن من أبيه أن يأخذ نصيبه من الميراث، بكّل وقاحة يقدّم هكذا طلب لأبيه، رافضًا نعيم الأب ساعيًا وراء حرية مجهولة. لكن ردّ فعل الأب كان مثيرًا للعجب، لقد أعطى إبنه مُبتغاه! لماذا يا رب تركته يذهب في طريقه؟ لماذا سمعت لكلامه؟ أنت تعلم جيدًا الى أين سيذهب وفي أي طريق سيسير، فلماذا لم تمنعه؟! تركته وإحترمت قراره، وكأنك يا رب تريده أن يجرّب البعد عنك.

ذهب الإبن وتُرك لحريّته واختياره مع أن أباه يعلم كل شيء ويعتصر قلبه حزنًا عليه. سار في طريق الحرّية التي أرادها فتبع شرّ قلبه، لكن الحياة كانت صعبة، والخطيئة كانت كبيرة، فدار الزمان على من كان سيدًا فصار عبدًا “يشتهي أن يملأ بطنه من الخُرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطيه أحد”. قرر العودة، ولكن أي عودة؟ إذا عاد سيضحك عليه أبوه ويعيّره بأنه لم يسمع لنصائحه، سيصبح منبوذًا، هذا إن قبله أحد أو قبل الكلام معه، فمن سيقبل الضالّ الذي “بدد ماله في عيشة إسراف” متّبعا شهواته؟ لكن شتّان ما بين تفكيره وتفكير أبيه. كان الأب ينتظره كل يوم، لأن حنانه يفوق غباء إبنه، فرآه “وكان لم يزل بعيدًا، فتحرّكت أحشاءه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً”. ما أروع حنانك يا رب! كنت تنتظره كل يوم، مع أنه تركك، وكان من الممكن ألا يعود أبدًا. لكن قلبك أكبر من خطيئته، وحبّك له أكبر من معصيته لك، وإحترامك لقراره أعظم من إحتقاره لنعمتك، حتى لو علمت أنه ذاهب الى أقذر الأماكن.

بعد طول انتظار تم اللقاء بين الأب وابنه الضال، العائد إلى أحضان أبيه الذي ولده من رحم الحب. لقاء كلله نور السماء بالفرح والمسامحة أمام توبة هذا الولد الكبيرة، بسكب قلبه بصدق أمام أبيه. لقد وضع ذاته بين يديه كما لم يفعل من قبل، متمنيا أن يولد من جديد، أن يولد من فوق، أن يعمد، بشوقه إلى السلام الداخلي والكفاية والفرح، بحب الذي لم يبخل به عليه ولو لمرة. لقد وصل إلى شاطىء الخلاص بعدما كاد أن يموت غرقًا في بحور الدنيا، بعيدًا عن الحضن الأبوي. لقد آمن بإمكانية الحياة من جديد، لكنه لم يكن بعد يدري عظمة غفران أبيه له وما ينتظره عند عودته. لم يستطع أن يفكر كأب رحوم، بل رضي بأقل ما هو ممكن من متطلباتت الحياة: وزر الخطيئة كان أقوى من فهمه لحب أبيه الكبير له.

أما الأب فلم ييأس ولو للحظة وإلا لما كان يراقب الأفق كل يوم منتظرًا عودة ابنه. ويوم عاد، سكتت لغة العتاب والمحاسبة. فالفرحة كانت عظيمة، وتجلت بجملة أوامر تختصر مدى لهفة انتظار هذه اللحظة: “أسرعوا، هاتوا أفخر الثياب، ألبسوه، ضعوا الخاتم في إصبعه، وحذاء في رجليه، قدموا العجل المسمن، فنأكل، ونفرح.”

لكن الأهم من بعد الإبن الضال هو جهل الإبن الأكبر. مشكلة الأخ الأكبر هي بصيرته المحدودة. لقد رأى في رحمة والده نحو أخيه العائد، ظلما وبهتانًا. لم يدرك أن يوم “قسم لهما أملاكه”، قد حصل هو أيضًا على نصيبه من الميراث، وكان بإمكانه أن يفرح ويتصرف بحصته كما يشاء هو أيضًا، بل ذهب بعماه إلى أبعد من ذلك ربما: لقد خاف على حصته، وارتبك لفكرة أن يغير الوالد وصيته، فيقسم من جديد حصة الأكبر مع أخيه “المبذر”… ثم ما لبثت أن تكشفت حقيقة مشاعره نحو أبيه: ” خدمتك ولم أعص لك أمرًا”، وكأنه كان عبدًا مقيدًا بالأوامر، يخدم طمعًا في الحصول على تقاعد في نهاية خدمته (الميراث) . لقد وضع الأبوة والبنوة خارج منطق العائلة الواحدة، رغم تواجده معه تحت سقف واحد. لم ينظر إلى الشركة في الحب والعطاء، ولا المشاركة في” الخبز الواحد”: لكل حصته وشؤونه وحياته.

ماذا بعد؟
إن الآب محترم لحريتنا، التي خلقنا عليها، إلى أقصى الحدود. وإلا لكنا “تبعيين” ملتصقين به، لكن دون أن نختاره ونحبه كأبناء خليقين به، قادرين على العودة إليه والتمسك به بصدق إن ضللنا. ولاكتشفنا أيضًا مدى تواضعه اللامحدود تجاهنا، وفرحه الغامر في كل مرة نتوب إليه. لاكتشفنا لهفته للعودة معه إلى بيته كي نتقاسم وإياه كل ما يملكه حتى ولو آلمناه بتعنتنا وسوء تصرفنا.
لاكتشفنا أن مأساة خطيئتنا تكمن في جرح قلبه الوالدي الذي سرعان ما يغفر لنا منتصرًا على ألمه باتقاد عطفه وحنانه في عمق أعماقه. صابر هو في انتظاره، لا يتعب ولا يمل هذا الإله – الأب. إنه يحيا فينا ويشعرنا بكثرة محبته دون أن نراه، إنما نعرفه بأبنه الوحيد يسوع المسيح الذي أتانا من حشاه.

ماذا يبقى لنا؟
لنسأل أنفسنا الآن كيف يمكننا عيش هذا الإنجيل. يقول القدّيس بولس: “من كان في المسيح، فهو خليقة جديدة”. لقد صالحنا الآب بابنه يسوع، وألبسنا الحلة والخاتم والحذاء يوم أخذ علتنا وعاهاتنا وعلقها على الصليب ثم قام حيًّا إلى الأبد، وجعلنا “شركاءالطبيعة الإلهية”.ما علينا إذن سوى اتخاذ القرار في القيام بالخطوة الأولى نحوه، مهما كنا ضالين، وهو يتكفل بالباقي كله. فلقد أعد لنا وليمة الفرح، وذراعاه مفتوحتان ينتظرنا كي يحضننا ونتشارك معه خبز الحياة، فيكون لنا في ذاتنا “كل فرحه”.

أنت تعلم يا رب أننا نتركك ونذهب وراء أفكارهنا وخططنا، بل ونأخذ منك ما نسرفه لاحقًا بوقاحة على شهوات قلوبنا الشريرة، لكن رحمتك واسعة، ومحبتك للخاطىء لا يحدّها عقل. إقبل يا رب الراجعين إليك، أبناءك الخاطئين النادمين، غير المستحقين أن تدخل قلوبهم، بل يكفيهم كلمة واحدة منك فتبرأ نفوسهم. إن وقعوا يا رب وتعثّروا في ضُعف الجسد فلم يعطى لهم أن يروك، فإسمح لهم أن يلمسوا هُدب ردائك، فلا يسمّوا بعد هذا ضالّين بل شطّارًا. آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

أحد آية شفاء المنزوفة

قلما لمست أناملي معنى السعادة الحقيقية قلما انغمر قلبي بفرح جعله يطير . وكأن السعادة بات مفهومها بعيد عن مفهومنا نحن البشر أبسبب ذلك صرخ داود، بعد ما اشتهى جارته بتشابع وخان زوجها وأرسله للحرب ليموت، أرجع لقلبي طعم فرح الخلاص. دع قلب يستطعم بقرة الفرح من إصبعك، كفرحة وصولنا لأرض الميعاد،

في دروب الحياة نجد أناس يبحثون عن السعادة. ولا يعلمون أين تكمن وتوجد. فأخذوا يسعون لإسعاد أنفسهم بأشياء وقتية تنتهي فيشتاقون إلى السعادة مرة أخرى كاشتياق الأيل إلى جداول المياه هم هكذا في ظمئهم للسعادة.
أما كانت المنزوفة كباقي الناس؟ أما كانت تبحث عن السعادة ككل من حولها؟ محظوظة هي إذ وجدت معنى أشمل للسعادة، وهي السعادة عند قدمي يسوع.
عند قدمي يسوع يوجد رجاء ويوجد أمل، كل يأس يتحطم وكل مرض يذهب عند قدمي يسوع .عند قدمي يسوع يوجد سلام وراحة تدخل الي مفترق النفس فتتعزى ولا مكان للدموع. عند قدمي يسوع تكمن السعادة .فدعونا نتخيل نفسية المنزوفة عند قدمي يسوع فقد أصابها الياس لكنها وجدت أمل عند قدمي الشافي الوحيد. وجدت رجاء فذهبت اليه وطرحت مرضها ومشاكلها تحت قدمي من هو أكبر من كل مرض. كم ننفق من أوقاتنا وأموالنا باحثين عن دواءٍ لشفاءِ جراحاتنا وانكساراتنا النفسيّة الّتي ترمينا في نزيف العفن الدّاخليّ، والدموع القلبيّة المريرة، والألم الممزِّق لأحاسيسنا؟
قد لا نضَيِّع فرصةً توهمنا بالسعادة والحياة الهنيئة إلاّ ونركض وراءها كي نستقرّ، فتصطادنا هي بدل أن نصطادها، وتعمّق الأسى فينا بدل الطمأنينة والسّلام، فيبقى النزف مستمرًّا، مضعِفًا فينا الحبّ والفرح إلى أن نموت فيه، إلاّ إن جدّينا ولمسنا ثوب الحبيب. ربّما نُماثِل المرأة النازفةِ في لمس الهدب من الخلف خجلاً من مواجهة الحبيب، وخوفًا من أسئلةٍ ننتظر: “كنت أبحث عنك، أين كنت طوال السنين الماضية؟ لِما لم تأتني إلاّ متأخّرًّا؟….” ولكن أيًا من كلّ تلك الأسئلة لن يطرح علينا ولن يعاتب، مهما تأخّر وقت لمسنا لثوبه؛ جُلَّ ما يريده، أن نُقبِلَ إليه واثقين ننتزع منه الشفاء، فيُسَرّ ويفرح لفرحنا!
إنّه الحبيب، ويريدنا أن نكون ذا رجاءٍ وإيمان كي ينسكب كلّ الحبّ فينا، شافيًا النفس منّا قبل الجسد. هو الوحيد القادر أن يعيد لنا بهاء صورته وهو الوحيد الّذي يعيد لنا ذاتنا المفقودة في النزيف.

علمنا يا رب أن ننبسط تحت قدميك، لنلتقط أنفاس الرجاء. الرجاء بالسعادة الأبدية، الرجاء ببهجة القيامة، بالقيامة مع يسوع، آمين


جاكي جوزيف ضوميط

أحد آية شفاء الأبرص

يومًا ما ستنطفئُ شمعتي، يومًا ما سأبقى ترابًا في هذا العالمِ الفاني، يومًا ما لنْ تعود تراني العيون.
في هذا اليومِ أُريدُ أن أكونَ معكَ يا يسوع، أن أرى النفوسَ بعينيكَ. أسألُ نفسي واليأسُ يَغمرُ كياني، هل أنا مُستعد؟ هل روحي لابسة حلّةَ العرسِ استعدادًا لاستقبال العريس؟ هل قلبي نظيفٌ مجهّز لوليمة عرس الإله المحب؟
ها إني اليوم أبرص مستلقي بين أشواك الألم والعذاب، تمامًا كالأبرص الذي أكلته الأوجاع والمرض. ها إن روحي يتيمة وحيدة لا ملجئ لها ولا معين، منبوذة كما نُبذ الأبرص عن مجتمعه الذي حمل راية الإيمان ملوحًا بها عاليًا محاولةً لتخبئة الظلم والكراهية الساكنين في قلبه.
ها إن يديّ ممدوتتين أطلب المعونة والرأفة، إذ قلبي أكله عفن السكون.
ها إني أشبه نفسي بالأبرص الذي غمرته بعطف حنانك ورحمتك. ذلك الأبرص الذي كرهه العالم أجمع وأحببته أنت حبًّا يفوق كل حب. تعاليت عن قذاذة غمرته، لم تهمك وزر الخطايا الذي أحمله إياه مدّعي الإيمان بل غصت إلى عمق قلبه ومليته حبًّا لا متناهي. أشبه نفسي اليوم بذلك الأبرص وأنا أبعد عنه كل البعد.
هو عرفك بقلبه وعقله وكامل كيانه، أما أنا فأعرفك بأذنيّ وعينيّ اللتين لا ترفان إلا القشور.
هو غاص بسرّك وعرف عظمة حبك وفهم تدبيرك، أما أنا فأغوص في تراب هذا العالم، في مستنقع الخطايا والشعوات والنزوات
هو عرف أنّك الطريق والحق والحياة، أما أنا فأسلك طريق ابن ضال عيناي لا تبصر النور إلا في ظلمة الخطايا
هو دنا منك وسلّم نفسه والثقة تغمر حديثه كمن رأى الحقيقة التامة والمطلقة، أما أنا فأنظر إليك تطرق بابي و مع كل دقة أرجع خطوة إلى الوراء محاولةً الهروب من الخلاص
هو صام عن الشر والبغض والضغينة، صام عن الأرض ووقع في حب السماء، أما أنا فجسدي صائم أما روحي فعطشى لسعادة باتت غريبة عنها.
هو غلب بإيمانه شكوك أسرت قلبه وجسده، وآمن أنك الوحيد شافي القلوب وغافر الخطايا وكامل الرحمة، أما أنا فما زلت أسيرة تلك الشكوك، مكبلة بأصفاد ركيكة

أبانا الذي في السماوات، نسألك اليوم أن تدخلْنا في سرِّ صحراء مسيحِكَ، واجعل من صومنا مَسيرةَ حب ورحمة. وحيثُ تتراجعُ أناشيدَ الفرح والمجدِ، فلتصدحْ نفوسُنا بأعمالِ البرِّ والصَلاحْ. ولترافقْ أجسادُنا وحيدكَ في مراحِل آلامهِ. وطِّد إيماننا فيك فنشفى من أوجاع أكلت كياننا كما شُفي الأبرص بحبك، آمين


جاكي جوزيف ضوميط

عرس قانا الجليل

يبدأ زمن الصوم في الزهد، في تحدي ذاتنا البشرية في شهواتها، شهوة السلطة والمال، شهوة إمتلاك الآخر في روحه وفي جسده…

نحن مدعوون إذًا، لنلج إلى الصوم بفرحِ وسعادةِ العاشق التائق للقاء حبيبه في كلّ آنٍ وأوان ومكان فيكون صومنا أداةً تساعدنا على رؤية وجه المسيح في الفقير والمظلوم والمسجون والعريان…. فنستحقّ الحياة في ملكوت الله الّذي هو “بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس”، آمين.

عرس قانا الجليل ربّما ما زلنا عالقين في “أجران قانا الفارغة” نصبو إلى الإرتشاف من خمرةٍ مختلفة، خمرةٍ جديدة، نبحث عنها ولا نجدها، ننتظرها ولا تأتينا، لأنّنا لم نتعرّف بعد إلى معطيها، أو لا نقبلها من يد “الخدم”، فترانا نشرب من كلّ خمور الدنيا علّها تكون المُرْتَضى. ولكن سرعان ما ندرك أنّها تُسْكِر الجسد وتعطّل الرّوح، ويبقى القلب ينبض في حسرة إيجاد خمرةِ “قانا” المقدّسة كي يمتزج بمعطيها. تلك الخمرة تعني قبولي قيامة المسيح داخلي، هذه القيامة الّتي لا تجد معناها العميق إلاّ عندما يهبها يسوع بإعطاء ذاته فقط لمن يرتضي أن يكون على مثاله ويهب ذاته للحبّ الصّادق المقدّس

في عرس قانا الجليل، أنقذت يا ربّ الحبّ من الخجل وأكملت بالحبّ ما أنقصته شهوات النّاس وإسفافهم وتراخيهم وإهمالهم.
هبنا اليوم، في ذكرى هذا الحبّ الكبير أن نشدّ الرّحال في مسيرة الصوم فنُحوّل بحضورك الحقد إلى غفران والتراخي إلى هِمم والتمادي إلى صفحٍ، يقودنا بالموت فيكَ إلى العبور بالقيامة إلى ملكوتك الأبديّ، حيث نسبّحك مع أبيكَ وروحكَ القدّوس إلى الأبد، آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء

حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء، تُحتَبس غصّة الحرمان في النفس وتأبى الدمعة الكريمة أن تتدحرج من مقلتيّ من يتمنّى أن يأكل ممّا يُرمى في براميل القمامةّ. لربّما يُقال: “ما لنا وللغني، هذا ماله وهو حرّ التصرّف به” أو “ليس مضطرًا لمساعدة الفقير، فلِما لا يعمل ليكسب رزقه؟”، هذا من الناحية المادّية.
أمّا من النواحي الأخرى، النفسيّة والروحيّة، فهناك الفقر الأكبر والحاجة الملحّة. المسألة إذًا لا تتعلّق فقط بلقمة الفقير، بل بالفقير إلى الحبّ، إلى الإهتمام، إلى الإحساس بأنّه مرافَقٌ وبأنّه ليس وحده في محنته، وإلى ما هنالك من حالات فقرٍ مُدقَع حتّى داخل القصور والكنائس.

غنيٌّ فقير
على موائد الغنيّ (الفقير روحيًّا)، تتلاطم الأطباق والأطايب بعضها ببعض لتسحره، هو الّذي يعاني من فراغٍ ما في داخله، فيقيم الولائم للتعويض والشعور بقدرٍ أكبر من الأهميّةِ وكأنّ هذه الأخيرة تتغذّى من طعام الأرض، فيغرق فيها إلى درجة أنّه لا يعود يرى القابع على باب داره يستجدي اللقمة، لا بل ينسى الله وينسى شكره على كلّ ما وهبه من خير. وفي خزائنه يتصارع الحرير مع الأرجوان والفضّة مع الماس، أمّا هو فيطرب لشجارها وينام على أنينها الّذي يحسبه هدهدة الجارية لإبن الملك كي يغفو. إنشغالاتٍ ومخطّطات سمّرته في قصر الولائم والثياب الفاخرة، في مساحةٍ أخذ الوقت فيها قيلولة لتتحوّل حياته إلى رتابة يومية مطلية باللؤلؤ الزائف، تكرّر نفسها مع كلّ إطلالة شمس.
وعلى باب القصر، يئنّ جوع لعازر الغني فيسكته بفتات الفقير وهو “يشتهي أن يشبع من فضلات مائدته”، متطلّعًا إليه بعينين تحكيان قصّته بالنظرات لعلّه يتذكّر أنه هو أيضًا إبنٌ لله وأنّ كلاهما على صورة الخالق ومثاله، فيرحم فقره.
لكنّ المسألة لم يفهمها، ولم يدرك أنها تقول “حيث يكون قلب الإنسان يكون كنزه”، لا بل أبعد من ذلك بكثير، لم يكتشف أنّها تجسّد المقدرة على الخروج من سجنه المنسوج بظروفه الماديّة والمعيشيّة حتّى ولو كانت أسلاكها من ذهب. لم يستطع أن يعرف بأنّها دعوة يوميّة إلى الحريّة واتّخاذ الموقف الواضح والثابت الّذي ينعش فيه روح البنوّة لله وينمي الرّجاء بلقاء الحبيب مع كلّ من كانوا حوله أو سبقوه إليه، دون إستثناء.

عندما تقرع أجراس الحزن على الأرض، هناك باب فرحٍ يُفتح في السماء. عندما ترفع بعض الأيادي الفقيرة صندوقًا بالكاد “يكمش” نفسه كي يحمل جسد لِعازر كلّ عصر، هناك أجواقٌ من الملائكة تأتي لتستقبل من كان أمينًا على حبّ الله وكلمته خلال مسيرته الأرضية، فيدخله إلى فرحِ الحبيب الأبديّ. وعندما تسير المواكب السّود وراء نعشٍ مذهّب وتطلق “النوبة” صراخها على فقدان الغنيّ – البخيل، صاحب الترف الأناني، هناك صراخٌ أشدّ ألمًا من الموت وصرير أسنانٍ لا يسمعه إلاّ من كان في الظلمة البرّانيّة، في الهوّة، يخرج من أعماقِ هذا الأخير الّذي لم يكترث لوجود الله في حياته وحياة من حوله.

هل يا ترى، لو تعرّف هذا الفقير بالروح على حقيقة الحبّ بين الآب والإبن في بوتقة الروح، وكيف يفرغ الآب ذاته في الإبن، والإبن بدوره يعيد ذاته إلى الآب بفعل شكرٍ في رقصة الحبّ الرائع المتكامل المستدام، ألن يشعر بصغره لِحياته اللامنظورة الّتي يحاول وضعها أحيانًا تحت خابية فقير أو محتاج، مُحاوِلةً سندها. ألن يفهم بالحري، أنّ فعل العطاء ما هو إلاّ إفراغ ذاتي بالملئ وبكلّ الحبّ كي أمتلئ بدوره بفرحٍ أكبر وحبٍّ أسمى.
ألن يبدأ مسيرته، بتوازنٍ دقيق على جسر العبور من الأنا إلى الآخر، من جيبه الغنيّ إلى قلبه الفقير، ومن بيت الترف إلى حضن الفقير. لو تعرفنا بدورنا إلى هذا الحب اللامتناهي، عندها، لن يبقى مثل لِعازر على شفاهنا بل سيدخل إلى حيّز التطبيق من خلال معناه “الله يساعد” من خلالي، من خلالك، من خلالنا جميعًا.
كلّ ما أتمنّاه اليوم هو الإيمان بالله الحاضر فيَّ وفيك الّذي به أتخطّى ذاتي وخوفي وفقري أيًّا كان نوعه، وأنسكب حبًّا في الآخر.

اليوم ونحن ما زلنا أحياء، دعونا نخرج من سجن ذاتيّتنا وندخل عالم الفقراء قبل أن ننتهي في القبر، فنجد أنفسنا مجرّدين من كلّ ما كنّا نتغنّى به، وقد فقدنا العزّ والجاه والشبع، وأصدقاء المناسبات والولائم والمصالح؛ ويكون قد فات الأوان على إكتشاف قيمة الحبّ والرحمة، وتكون الأرض قد تشبّثت بنا وإنتزعت منّا فرصة التنعم بلقيا العريس الّذي ينتظر. فلنعطِ إذًا ما للأرض للأرض وما للسماء للسماء.


جاكي جوزيف ضوميط

فرح الأبرار والصديقين

كيف لنا أن نفرح فرح الأبرار والصديقين، ونحن نندب حظنا ونبحث في دهاليز ذاكرتنا عن خيبات منسية أو مهملة ثم نضيف إليها خيبة جديدة، ثم نحدق في المرايا لنرى إنعكاسها في وجوهنا المهشمة.
كيف لنا أن نفرح فرح الأبرار والصديقين، ونحن نقف في الطوابير الطويلة، ندخل في غيبوبة إنتظار مستحيل، ونحدق في أفق بعيد، عله ينجب لنا لحظة أمل تستند عليه قلوبنا.
أرواحنا عالقة .. سجينةْ، مكبلة بسلاسل دقت أوتادها في أعمق أعماقنا المظلمة وقلوبنا ترتجف كطائر ذبيح .. وترتعش أجسادنا وكأن صاعقة ضربتها، فتدور بنا الحياة دورة كاملة .. كاملة بلا نقص.
نعاند الراحة والفرح ونهادن الخلاص الذي يناديا منذ الأبد ونبحث عن الحزن والمعاناة نتنفس بصعوبة بالغة، نعاند الراحة ثم نبحث عن مكان يمدنا بالهواء … يرهقنا البحث نستسلم كعادتنا. نستسلم عن ذواتنا، وعن إخوتنا الصغار في هذا العالم، فنقود بأنفسنا إلى يسار الآب حيث البكاء وصريف الأسنان.
نستسلم ثم نبحث في صناديقنا المهترئة عن أوراقنا البالية القديمة، نبحث فيها عن حلول تغرينا بالحياة من جديد.
نبحث بجدية مفرطة، وكلما ازداد بحثنا، إزداد شعورنا بالإحباط.
نحن لا نعترف بطريق الخلاص الحقيقي فكل منا مكبل بطريقه وخطاياه وشهواته. حميعنا نؤله أنفسنا، نؤله ذواتنا ونجهض كل محاولة لنا لترميم دواخلنا، والتواصل مع الرب يسوع المسيح ونفضل البقاء مع ذواتنا المهمشة الغارقة في بحور أمواجها المتلاطمة.
نحن نعتقد بأننا نخسر أنفسنا عندما نسلمها للرب، هذا المجهول بنظرنا، الغامض والغريب نرتاح مع أفكارنا الأنانية، مع رغباتنا، مع ألوهيتنا..
ثم سرعان ما نكتشف أن تلك الأفكار هي أفكار سوداوية، غارقة في ظلام دامس، قاتلة يا لها من حياة نعلي فيها صروح الوهم، متجاهلين الواقع وبعيدين كل البعد عن حقيقة السعادة وعن سر الخلاص الحقيقي ثم سرعان ما نعود إلى أنفسنا، متذبذبين بين رأي ورأي آخر، معتقدين بأننا ممسكين بزمام الحلول تارة، وبأننا فقدنا الشعور بها تارة أخرى.
ثم سرعان ما ندرك أننا على خطأ. سرعان ما تتفتح عيوننا على من هو أسمى وأعظم من بحر الضياع الذي كنا غارقين فيه
فنسرع راكضين بلهفة كالإبن الضال الذي استفاق من غيبوته، كالمنزوفة التي اكتشفت دواءها الوحيد، كالأعمى الذي أبصر نور الخلاص، كالمخلع الذي ركض بروح نحو الطبيب ونقوم، مثلما أقام الرب لعازر وبنت يائيروس
نقوم من الموت ونحيا وإذا تصفحنا الماضي، رأينا ااحاضر واستشرفنا المستقبل، نصل إلى خلاصة واحدة:
“أنا الإنسان، أنا من خلقني الله على صورته ومثاله، أنا الذي أحبني الله حتى الموت، ستقتلني الأنا.
أنا الإنسان الأناني في ماضي، أركع تحت قدميك يا رب، أرتوي منهما الحب وأصرخ: لم يعد بيدي حيلة، أسلمك حياتي!”
وعندها سأرى أنني سأصبح إلها بجانب الرب، فقد دعاني، هو بنفسه، للكمال، للؤلهية. عندها سأرى الخلاص، سأرى السعادة
عندها، سأحيا مع الأبرار والصديقين في ملكوتك السماوي، إلى أبد الآبدين، آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

جاء الإنسان من بين يدي الله

جاء الإنسان من بين يدي الله آية الوجود لِما حمله من روحِ جابله وصورته ومثاله. ناظرًا ذاته فيها، أمنّه على كلّ ما خلق، محمّلاً إيّاه رسالة الحبّ الأعظم هامسًا في قلبه: كن الحبّ بذاته لكلّ إخوتك في المسكونة كلّها، وابنِ معهم ملكوت السّماء بحجارة المواهب المتنوّعة و”عَشِّقها” بالأمانة على المسؤوليّة. لكن إيّاك أن تبخل بالفرح في العطاءِ والسّهر الدّائم الجميل على ما قد يصبح لك يومًا أيّها الإبن الحبيب. أنت اليوم في جسدٍ قد يأخذ منه التّراب نصيبه امّا الحياة الّتي وهبتك لك، فلن تضيع أبدًا: لقد خلقتك للحياة لا للموت !…

نعم، لقد خلقنا الله للحياة لا للموت. فلإن كنّا لا نترجّى الحياة الدّائمة مع الله، بالطبع ليس لنا حتىّ أن نحبّ أنفسنا ولا فلذات أكبادنا، أولادنا، بالتالي كيف نحبّ البعيد إذًا؟ أمّا إن كنّا من الّذين يؤمنون بالحياة الأبديّة، فلكم هو عظيمٌ أن نكون متيقّظين حذرين من كلّ من يرغب في نهشِ ممتلكاتنا الّروحيّة: الحبّ، السّهر والتيقّظ، العمل بأمانةٍ وفرحٍ دائمين، ومشاطرة الآخر ما لدينا من هبات الخالق ومواهبه. فطوبى للمستعدّين للعمل، غير منقادين إلى طلب الرّاحة الكسولة، ولا قلقين من الظّروف الصعبة، خاصّة في أياّمنا هذه، حيث الذّئاب تملأ المسكونة، وتدخل حَرَمَك دون استئذان محاولةً افتراس أجنّة الخير فيك. طوبى لكلّ من يأخذ من سهر القلب والفكر والإرادة مسلكًا، مشمّرًا عن ساعديه، شاكلاً رداءه في نطاقه وفي يده مصباح الحكمة والتفكّر واليقظة: فما من ولادة دون مخاض، ولا من مياه دون نبع يشقّ الصخر مندفعًا.

ساهرًا كن وعيناك مفتوحتان على الطّريق، متحرّرًا من كلّ ما يثقل كاهلك كي تستطيع أن تكون في جهوزيّة دائمة للتحرّك بحُرّية، ورأسك مرفوع نحو السّماء، لا شيء يشدّك إلى الأسفل. لا تمضي وقتك في البحث عن الله كي يقدّم لك “الخدمات” والعون بل كن واثقًا أنّه يرافق كل خطوةٍ من خطواتك، يمسك بيدك الضعيفة ويسند ظهرك ولا تراه. إخدمه إذًا وكن طائعًا لما يفعله لك أيّها الإنسان الحبيب. كما لا تبحث عن ذاتك في كلماته ولا في سفر التكوين، لأنّ ظنّك سيخيب عندما لا ترى الصور الّتي خُلِقتَ عليها والّتي بدأتَ تفقدها بفعلك أيّ شيء يرضيك أنت خارج إرادته، “الفجر إلى النّجر”. ليس لك إلاّ أن تحبّ بصدقٍ ودونما قياس كل مل يحبّه هو، وإذا ما أردت أن تغفو فلا تفعلها إلاّ في أحضانه حيث الأمان، فتفرح كالطفل المتهادي على صدر أمّه الحنون بثقة وقد أخذ من روحها روح.

الرّب آتٍ آتٍ. “وكالسارق” سوف يحضر. فلماذا نخاف الموت ونضعه نصب أعيننا كالمُهَدّد ِالدّائم لراحتنا واستقرارنا؟ لماذا نخشى حكم الله إذا كنّا نعيش ومضات الحياة في نعمته؟ بالتأكيد سوف يضمّنا إلى صدره، يُقبِّلنا ويتقدّم لخدمتنا كما فعل أيّام تأنّسه وحلوله بالجسد بيننا، لأنّنا كنّا أمناء على بيته.

لا نتفاجأ إذًا إن كانت مخطّطاتنا تنقلب رأسًا على عقب يوم نكون في النّعمة، لأنّها ترى بعينه هو (عين الله) ما هو صالحٌ لنا فتؤتينا مشيئته الخيّرة مع البركة والثمار الوافرة فالحظوة عند الحبيب يوم عودته.


جاكي جوزيف ضوميط