رعيّة رشدبّين

Month: February 2019

حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء

حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء، تُحتَبس غصّة الحرمان في النفس وتأبى الدمعة الكريمة أن تتدحرج من مقلتيّ من يتمنّى أن يأكل ممّا يُرمى في براميل القمامةّ. لربّما يُقال: “ما لنا وللغني، هذا ماله وهو حرّ التصرّف به” أو “ليس مضطرًا لمساعدة الفقير، فلِما لا يعمل ليكسب رزقه؟”، هذا من الناحية المادّية.
أمّا من النواحي الأخرى، النفسيّة والروحيّة، فهناك الفقر الأكبر والحاجة الملحّة. المسألة إذًا لا تتعلّق فقط بلقمة الفقير، بل بالفقير إلى الحبّ، إلى الإهتمام، إلى الإحساس بأنّه مرافَقٌ وبأنّه ليس وحده في محنته، وإلى ما هنالك من حالات فقرٍ مُدقَع حتّى داخل القصور والكنائس.

غنيٌّ فقير
على موائد الغنيّ (الفقير روحيًّا)، تتلاطم الأطباق والأطايب بعضها ببعض لتسحره، هو الّذي يعاني من فراغٍ ما في داخله، فيقيم الولائم للتعويض والشعور بقدرٍ أكبر من الأهميّةِ وكأنّ هذه الأخيرة تتغذّى من طعام الأرض، فيغرق فيها إلى درجة أنّه لا يعود يرى القابع على باب داره يستجدي اللقمة، لا بل ينسى الله وينسى شكره على كلّ ما وهبه من خير. وفي خزائنه يتصارع الحرير مع الأرجوان والفضّة مع الماس، أمّا هو فيطرب لشجارها وينام على أنينها الّذي يحسبه هدهدة الجارية لإبن الملك كي يغفو. إنشغالاتٍ ومخطّطات سمّرته في قصر الولائم والثياب الفاخرة، في مساحةٍ أخذ الوقت فيها قيلولة لتتحوّل حياته إلى رتابة يومية مطلية باللؤلؤ الزائف، تكرّر نفسها مع كلّ إطلالة شمس.
وعلى باب القصر، يئنّ جوع لعازر الغني فيسكته بفتات الفقير وهو “يشتهي أن يشبع من فضلات مائدته”، متطلّعًا إليه بعينين تحكيان قصّته بالنظرات لعلّه يتذكّر أنه هو أيضًا إبنٌ لله وأنّ كلاهما على صورة الخالق ومثاله، فيرحم فقره.
لكنّ المسألة لم يفهمها، ولم يدرك أنها تقول “حيث يكون قلب الإنسان يكون كنزه”، لا بل أبعد من ذلك بكثير، لم يكتشف أنّها تجسّد المقدرة على الخروج من سجنه المنسوج بظروفه الماديّة والمعيشيّة حتّى ولو كانت أسلاكها من ذهب. لم يستطع أن يعرف بأنّها دعوة يوميّة إلى الحريّة واتّخاذ الموقف الواضح والثابت الّذي ينعش فيه روح البنوّة لله وينمي الرّجاء بلقاء الحبيب مع كلّ من كانوا حوله أو سبقوه إليه، دون إستثناء.

عندما تقرع أجراس الحزن على الأرض، هناك باب فرحٍ يُفتح في السماء. عندما ترفع بعض الأيادي الفقيرة صندوقًا بالكاد “يكمش” نفسه كي يحمل جسد لِعازر كلّ عصر، هناك أجواقٌ من الملائكة تأتي لتستقبل من كان أمينًا على حبّ الله وكلمته خلال مسيرته الأرضية، فيدخله إلى فرحِ الحبيب الأبديّ. وعندما تسير المواكب السّود وراء نعشٍ مذهّب وتطلق “النوبة” صراخها على فقدان الغنيّ – البخيل، صاحب الترف الأناني، هناك صراخٌ أشدّ ألمًا من الموت وصرير أسنانٍ لا يسمعه إلاّ من كان في الظلمة البرّانيّة، في الهوّة، يخرج من أعماقِ هذا الأخير الّذي لم يكترث لوجود الله في حياته وحياة من حوله.

هل يا ترى، لو تعرّف هذا الفقير بالروح على حقيقة الحبّ بين الآب والإبن في بوتقة الروح، وكيف يفرغ الآب ذاته في الإبن، والإبن بدوره يعيد ذاته إلى الآب بفعل شكرٍ في رقصة الحبّ الرائع المتكامل المستدام، ألن يشعر بصغره لِحياته اللامنظورة الّتي يحاول وضعها أحيانًا تحت خابية فقير أو محتاج، مُحاوِلةً سندها. ألن يفهم بالحري، أنّ فعل العطاء ما هو إلاّ إفراغ ذاتي بالملئ وبكلّ الحبّ كي أمتلئ بدوره بفرحٍ أكبر وحبٍّ أسمى.
ألن يبدأ مسيرته، بتوازنٍ دقيق على جسر العبور من الأنا إلى الآخر، من جيبه الغنيّ إلى قلبه الفقير، ومن بيت الترف إلى حضن الفقير. لو تعرفنا بدورنا إلى هذا الحب اللامتناهي، عندها، لن يبقى مثل لِعازر على شفاهنا بل سيدخل إلى حيّز التطبيق من خلال معناه “الله يساعد” من خلالي، من خلالك، من خلالنا جميعًا.
كلّ ما أتمنّاه اليوم هو الإيمان بالله الحاضر فيَّ وفيك الّذي به أتخطّى ذاتي وخوفي وفقري أيًّا كان نوعه، وأنسكب حبًّا في الآخر.

اليوم ونحن ما زلنا أحياء، دعونا نخرج من سجن ذاتيّتنا وندخل عالم الفقراء قبل أن ننتهي في القبر، فنجد أنفسنا مجرّدين من كلّ ما كنّا نتغنّى به، وقد فقدنا العزّ والجاه والشبع، وأصدقاء المناسبات والولائم والمصالح؛ ويكون قد فات الأوان على إكتشاف قيمة الحبّ والرحمة، وتكون الأرض قد تشبّثت بنا وإنتزعت منّا فرصة التنعم بلقيا العريس الّذي ينتظر. فلنعطِ إذًا ما للأرض للأرض وما للسماء للسماء.


جاكي جوزيف ضوميط

فرح الأبرار والصديقين

كيف لنا أن نفرح فرح الأبرار والصديقين، ونحن نندب حظنا ونبحث في دهاليز ذاكرتنا عن خيبات منسية أو مهملة ثم نضيف إليها خيبة جديدة، ثم نحدق في المرايا لنرى إنعكاسها في وجوهنا المهشمة.
كيف لنا أن نفرح فرح الأبرار والصديقين، ونحن نقف في الطوابير الطويلة، ندخل في غيبوبة إنتظار مستحيل، ونحدق في أفق بعيد، عله ينجب لنا لحظة أمل تستند عليه قلوبنا.
أرواحنا عالقة .. سجينةْ، مكبلة بسلاسل دقت أوتادها في أعمق أعماقنا المظلمة وقلوبنا ترتجف كطائر ذبيح .. وترتعش أجسادنا وكأن صاعقة ضربتها، فتدور بنا الحياة دورة كاملة .. كاملة بلا نقص.
نعاند الراحة والفرح ونهادن الخلاص الذي يناديا منذ الأبد ونبحث عن الحزن والمعاناة نتنفس بصعوبة بالغة، نعاند الراحة ثم نبحث عن مكان يمدنا بالهواء … يرهقنا البحث نستسلم كعادتنا. نستسلم عن ذواتنا، وعن إخوتنا الصغار في هذا العالم، فنقود بأنفسنا إلى يسار الآب حيث البكاء وصريف الأسنان.
نستسلم ثم نبحث في صناديقنا المهترئة عن أوراقنا البالية القديمة، نبحث فيها عن حلول تغرينا بالحياة من جديد.
نبحث بجدية مفرطة، وكلما ازداد بحثنا، إزداد شعورنا بالإحباط.
نحن لا نعترف بطريق الخلاص الحقيقي فكل منا مكبل بطريقه وخطاياه وشهواته. حميعنا نؤله أنفسنا، نؤله ذواتنا ونجهض كل محاولة لنا لترميم دواخلنا، والتواصل مع الرب يسوع المسيح ونفضل البقاء مع ذواتنا المهمشة الغارقة في بحور أمواجها المتلاطمة.
نحن نعتقد بأننا نخسر أنفسنا عندما نسلمها للرب، هذا المجهول بنظرنا، الغامض والغريب نرتاح مع أفكارنا الأنانية، مع رغباتنا، مع ألوهيتنا..
ثم سرعان ما نكتشف أن تلك الأفكار هي أفكار سوداوية، غارقة في ظلام دامس، قاتلة يا لها من حياة نعلي فيها صروح الوهم، متجاهلين الواقع وبعيدين كل البعد عن حقيقة السعادة وعن سر الخلاص الحقيقي ثم سرعان ما نعود إلى أنفسنا، متذبذبين بين رأي ورأي آخر، معتقدين بأننا ممسكين بزمام الحلول تارة، وبأننا فقدنا الشعور بها تارة أخرى.
ثم سرعان ما ندرك أننا على خطأ. سرعان ما تتفتح عيوننا على من هو أسمى وأعظم من بحر الضياع الذي كنا غارقين فيه
فنسرع راكضين بلهفة كالإبن الضال الذي استفاق من غيبوته، كالمنزوفة التي اكتشفت دواءها الوحيد، كالأعمى الذي أبصر نور الخلاص، كالمخلع الذي ركض بروح نحو الطبيب ونقوم، مثلما أقام الرب لعازر وبنت يائيروس
نقوم من الموت ونحيا وإذا تصفحنا الماضي، رأينا ااحاضر واستشرفنا المستقبل، نصل إلى خلاصة واحدة:
“أنا الإنسان، أنا من خلقني الله على صورته ومثاله، أنا الذي أحبني الله حتى الموت، ستقتلني الأنا.
أنا الإنسان الأناني في ماضي، أركع تحت قدميك يا رب، أرتوي منهما الحب وأصرخ: لم يعد بيدي حيلة، أسلمك حياتي!”
وعندها سأرى أنني سأصبح إلها بجانب الرب، فقد دعاني، هو بنفسه، للكمال، للؤلهية. عندها سأرى الخلاص، سأرى السعادة
عندها، سأحيا مع الأبرار والصديقين في ملكوتك السماوي، إلى أبد الآبدين، آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

جاء الإنسان من بين يدي الله

جاء الإنسان من بين يدي الله آية الوجود لِما حمله من روحِ جابله وصورته ومثاله. ناظرًا ذاته فيها، أمنّه على كلّ ما خلق، محمّلاً إيّاه رسالة الحبّ الأعظم هامسًا في قلبه: كن الحبّ بذاته لكلّ إخوتك في المسكونة كلّها، وابنِ معهم ملكوت السّماء بحجارة المواهب المتنوّعة و”عَشِّقها” بالأمانة على المسؤوليّة. لكن إيّاك أن تبخل بالفرح في العطاءِ والسّهر الدّائم الجميل على ما قد يصبح لك يومًا أيّها الإبن الحبيب. أنت اليوم في جسدٍ قد يأخذ منه التّراب نصيبه امّا الحياة الّتي وهبتك لك، فلن تضيع أبدًا: لقد خلقتك للحياة لا للموت !…

نعم، لقد خلقنا الله للحياة لا للموت. فلإن كنّا لا نترجّى الحياة الدّائمة مع الله، بالطبع ليس لنا حتىّ أن نحبّ أنفسنا ولا فلذات أكبادنا، أولادنا، بالتالي كيف نحبّ البعيد إذًا؟ أمّا إن كنّا من الّذين يؤمنون بالحياة الأبديّة، فلكم هو عظيمٌ أن نكون متيقّظين حذرين من كلّ من يرغب في نهشِ ممتلكاتنا الّروحيّة: الحبّ، السّهر والتيقّظ، العمل بأمانةٍ وفرحٍ دائمين، ومشاطرة الآخر ما لدينا من هبات الخالق ومواهبه. فطوبى للمستعدّين للعمل، غير منقادين إلى طلب الرّاحة الكسولة، ولا قلقين من الظّروف الصعبة، خاصّة في أياّمنا هذه، حيث الذّئاب تملأ المسكونة، وتدخل حَرَمَك دون استئذان محاولةً افتراس أجنّة الخير فيك. طوبى لكلّ من يأخذ من سهر القلب والفكر والإرادة مسلكًا، مشمّرًا عن ساعديه، شاكلاً رداءه في نطاقه وفي يده مصباح الحكمة والتفكّر واليقظة: فما من ولادة دون مخاض، ولا من مياه دون نبع يشقّ الصخر مندفعًا.

ساهرًا كن وعيناك مفتوحتان على الطّريق، متحرّرًا من كلّ ما يثقل كاهلك كي تستطيع أن تكون في جهوزيّة دائمة للتحرّك بحُرّية، ورأسك مرفوع نحو السّماء، لا شيء يشدّك إلى الأسفل. لا تمضي وقتك في البحث عن الله كي يقدّم لك “الخدمات” والعون بل كن واثقًا أنّه يرافق كل خطوةٍ من خطواتك، يمسك بيدك الضعيفة ويسند ظهرك ولا تراه. إخدمه إذًا وكن طائعًا لما يفعله لك أيّها الإنسان الحبيب. كما لا تبحث عن ذاتك في كلماته ولا في سفر التكوين، لأنّ ظنّك سيخيب عندما لا ترى الصور الّتي خُلِقتَ عليها والّتي بدأتَ تفقدها بفعلك أيّ شيء يرضيك أنت خارج إرادته، “الفجر إلى النّجر”. ليس لك إلاّ أن تحبّ بصدقٍ ودونما قياس كل مل يحبّه هو، وإذا ما أردت أن تغفو فلا تفعلها إلاّ في أحضانه حيث الأمان، فتفرح كالطفل المتهادي على صدر أمّه الحنون بثقة وقد أخذ من روحها روح.

الرّب آتٍ آتٍ. “وكالسارق” سوف يحضر. فلماذا نخاف الموت ونضعه نصب أعيننا كالمُهَدّد ِالدّائم لراحتنا واستقرارنا؟ لماذا نخشى حكم الله إذا كنّا نعيش ومضات الحياة في نعمته؟ بالتأكيد سوف يضمّنا إلى صدره، يُقبِّلنا ويتقدّم لخدمتنا كما فعل أيّام تأنّسه وحلوله بالجسد بيننا، لأنّنا كنّا أمناء على بيته.

لا نتفاجأ إذًا إن كانت مخطّطاتنا تنقلب رأسًا على عقب يوم نكون في النّعمة، لأنّها ترى بعينه هو (عين الله) ما هو صالحٌ لنا فتؤتينا مشيئته الخيّرة مع البركة والثمار الوافرة فالحظوة عند الحبيب يوم عودته.


جاكي جوزيف ضوميط