رعيّة رشدبّين

مواضيع وتأملات لاهوتية

نثق ونؤمن

أن تشعر بأنَّ سُمّ الحيّة التي عضّتك يجري في عروقك، حتماً لَهُوَ اختبار مرعب وأنت تنتظر اقتراب أجَلِك…
تموت نفسيًّا قبل الجسد، عندما تبدأ بالتفكير في ما يجري لأعصابك التي تتشلّل شيئاً فشيئًا، ولدمك الّذي يتحوّل إلى حبرٍ أسود ليغزو كلّ مفاصل حيويتك وعقلك: قلقٌ، خوفٌ، يأسٌ فموت.

فمن منّا لم تعضّه الخطيئة؟ من منّا لم تتنازعه ميول الشرّ، فنحطّم ذواتنا والآخرين، عالمين في أعماقنا ماذا يجري داخلنا، وما هو مصيرنا؟
لكنّنا نستسلم لضعفنا فيُشَلُّ تفكيرنا ونتلاشى شيئًا فشيئًا حتّى موت النفس؛ ومتى ماتت تبطل حركتها، ولا تعد قادرة على النظر إلى الصليب الشافي، المجدّد، عندها يبدأ العالم المادّي الدنيويّ التحكّم بها فيقودها حيثما يشاء. هلاّ فهمنا لِمَ طلب يسوع من نيقوديموس “الولادة الجديدة من علو؟”
لأنّه لم يرد لنا أن نتألّم في مهدنا بل أن نتعافى ونصبح خليقة متجدّدة بروحه القدّوس؛ لم يرد أن تسكن الخطيئة أجسادنا ونفوسنا فتميتها. أراد إفهامنا أنّ الدواء هو في قبول الإتّحاد بروحه كي نولد أطهارًا من جديد.
في عصرنا الحاضر نرى الدنيا والمادة آخذة بالمسيحيّين إلى أبعد من أن يأملوا “بالولادة من علو”. سبب أساسي كي يخمد فينا الروح وتتلاشى القوّة والشجاعة كي ننطلق ونجّدد هذا العالم بالأخوّة والمحبّة. ترى إنسان اليوم يتكلّم عن الله دون أن يتكلّم إليه، يخبر عنه وهو لم يختبره.

لماذا؟
لأنّه حفظ ما حفظه من عبادات وصلوات وواجبات دينيّة في مكانٍ ما من ذاكرته وانفتح على كلّ شيء ما عدا روح الله كي يحيي ما حفظه فيصبح “كصنجٍ يطنّ وجرسٍ يرنّ”، وقلبه متحجّرًا.
مثل نيقوديموس، نأتي أحيانًا إلى الله لأنّنا رأينا ما صنع من عجائب وآيات لكنّنا نلتحِفُ بالليل كي لا يرانا الآخرون فينعتوننا “بالبسطاء”: ويلٌ لنا إن علموا بأمرنا، ورغبتنا المتأرجحة في اكتشاف الحقّ والحقيقة في المسيح لا تجرؤ على الخروج إلى النور (العَلَنْ).
ألا نؤمن بأنّ المسيح ومَنْ بعده مِنَ الرسل والقدّيسين هم من جعلونا نكتشف بأنّ روح الحبّ والحقّ هما يحرّرانا، ويجعلا منّا أبناءً أُمَناء أحبّاء يفرحون بلقاء الله الأب والآب؟
ألا نثق بوعوده لنا، وبأنّ إرادته، بفعل الحبّ لشخصنا، هي انتشالنا من هوّة العبوديّة للإنسان القديم والخوف من الدينونة رافعًا إيّانا صوب قلبه، صوب الفرح الحقيقي والحرّية الحقيقية والحبّ الصادق والمسؤول؟
ألا نثق بأنّ في هذه الولادة طفولة روحيّة تكبر بالنعمة والقامة والحكمة في المسيح، حيث في كلّ يوم هناك انطلاقة جديدة نحو الأفضل والأكمل، نحو مسامحةٍ أكبر واحتضانٍ أعظم؟

لنقف وقفة تأمّل في ما يجري داخلنا ومن حولنا، ولْنُصَلِّ لنيل هبة الروح كي نولد من جديد ونتحرّر من مخاوفنا، ونستفيق من كبوتنا العميقة التي أخذتنا بعيدًا، في الأحلام، عن واقعنا كأبناءٍ للآب. لنبحث عن نظرة البنوّة تلك إلى الله، فإنّها وسط “عجقة” الشعارات والإيديولوجيّات والمعتقدات والعصبيّات الدينيّة المتنازعة فيما بينها. لأجل خيرنا فلنتسلّح بالشجاعة ونطلق الروح يعمل فينا كي نشهد للحقّ والخير والحبّ.

أمّا نحن الشباب، فمن المهمّ بمكانٍ أن نعرف بمن علينا أن نثق ونؤمن. علينا أن نملأ فراغ المجتمع بالأعمال التي تبني الإنسان وتنمّي فيه الحبّ وننفتح على قبول الآخر.
فلنأخذ موعدًا مع الربّ اليوم فنحن “مولودون منذ هذه اللحظة من علو” وسنكون أصحاب المستقبل في المجتمع الخَيَّر والكنيسة المتجدّدة، آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

في البدءِ كان كلمة. بل، في البدءِ كان الكلمة

عُرِفَ كونه الوحيد، كونه الأساس،
عُرِفَ كونه حي في البدءِ، منذ البدء، حتى انقِضاءِ الدهر.
كلمةٌ، و ما أعظمَ ذاك الكلمة. الكلمة أصبح كلمة معاشة، أصبح حياة.
كلمةٌ به كان الكونُ، فيه اختَبأت أسراره، بحروفِه رُسمتِ السماءُ وتَزينتِ النجومُ بأبهى حُلّتها لتلمعَ عاليًا في فضاءٍ شاسعٍ حملَ بأحضانِه شتى الغرائِبِ، أعظمَ الأسرار.
كلمةٌ تَدحرَجَ من كافِه الأرضُ، تلكَ الأرض التي علتها الجبال كاللام الشامخةِ، حَفرَت في تُرابها وديانَ بعمق الميمِ، وبطرف التاءِ جمعَت عناصر شتى.
كلمة كان حياة. فيه كانت الحياة.
كلمةٌ نَفخَ في التراب، ومن اللاشيء أصبح كل شيء موجود. كان إنسانٌ على صورتِه ومثالِه.
لم تَحدّه فاصلةُ الخوفَ أو توقِفه نقطةُ الموتِ.
بهويتِه تخطَّى كلَّ الصعاب. سلاحُه هويتُه، الحبٌ سلاحُه، فكان هو الحبُ.
بسلاحِه خرجَ من قلمِ الكاتِب العظيمِ، أبِ الكلمةِ، منهُ خرجَ، نالَ بركةَ مكمِّل الثالوثِ، كسرَ حواجزَ ما بين العالمَين ليصلَ إلى بيتِها المظلمِ بحلّةٍ تشبِهُ حلّةَ سكانِه.
بيته لم يعرفه..
كان بيتًا مرصعًا بالذهب من الخارج، وبحجارةٍ شاحبةٍ تبعث بالكآبةِ من الداخل. الشبابيك معتمة والباب مغلق ساكن. كان بيتًا كئيبًا حزينًا كسكانِه.
دخلَه وأعاد الحياةَ إليه. غمرَ أهلَهُ بسلاحِه العظيم، أحيَاهُم من جديد. غمرَهم بحنانِه الفائِق ونعَمه الغزيرة. شفَى المرضى منهم، فأبصرَ العميانُ تكلمَ البكم وسمعَ الصم، أعْطَى لمن عرفه حظوةً في دهاليزِ العالمِ الثاني، جعلهُم أبناءَ الكاتِب الأكبر .
كان الموتُ سيدَ البيتِ الكئيب، الذي يخشاهُ الجميع، فتخلَّى عن كل حرفٍ منها، جمعهُم صليبًا، غلبَ به الموتَ وأعطى من خلالِه حياةً أبدية لسكان البيت، يعيشونها تحت سقف حروفه الحية.
في البدء كان الكلمة، به كان كل شيء، بدونه ما كان شيء مما كان.
في البدء كان الكلمة، كلمة حية
في البدء، منذ البدء، حتى انقضاء الدهر..
فكيف نعيش كأُناسٍ أخذنا ذاك الكلمة؟ هل نتصرّف ونتكلّم ونتحرّك بجسدٍ هو هيكل للروح القدس؟ هذا الروح الّذي أُعطيَ لنا كي ننادي به الله “أبّا”. هل ندعه يحرّك منّا القلب والعقل واللسان؟ إنّه القوّة وطاقة الحياة الألهيّة فينا. هو من يجعلنا نعرف أنّ يسوع الحمل رفع خطيئتنا كي يريح كاهلنا، فنرتاح ونتذوّق الحياة الجديدة المملؤة سلامًا وفرحًا ومصالحة. هو من يجعلنا نفهم مكنونات قلبه وحقيقة أنّنا محبوبين مثلما هو محبوب من أبيه. فهل نحن نؤمن بهذا؟
هذا ما يريدنا الله أن نراه من حقيقةٍ بثقةٍ كاملة… ورغم كوننا خطأة وضعفاء، فنحن مخلَّصون إن آمنّا بهذا الحبّ العظيم وبابنه”حمل الله” يسوع.
أرسلت يوحنّا يُعد الطريق لابنك فسَمّيتَ لَه كارِزًا في الأرض…
فالشّكر لَكَ أيّها الآب…
أسْمَعتَ العالَمَ صَوتَكَ، صَوت الرِّضَى، فَكُنتَ لهُ كارِزًا سَماوِيًّا…
فالشّكر لك أيّها الأب…
دَلّ عليك يوحنّا وأعلن أنّك الحمل الطّاهر الذي يحمل خطيئة العالم، فصرت لنا الحُبّ الغافر…
فالشّكر لك أيها الإبن…
كَسَرتَ لَنا خُبزًا أرضيًّا فأشبعتَ أجسادنا الميتة، وَكَسَرت لنا خبزًا سماويًّا يُشبِعُ أرواحَنا العَطشَى…
فالشّكر لك أيّها الإبن،
ظهَرْتَ فوق نهر الأردنّ على شكل حمامة كلّلَتِ السماء بالمجدِ والنورِ…
فالشّكر لك أيّها الروح القدس، جمعتنا
‏ وجعلْتَنا أبناء الله وخلقت عطشًا عميقًا لحبِّ الله في قلوبنا…
فالشّكر لك أيّها الروح القدس،
لك الشكر والحمد والسجود، أيّها الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، من الآن وإلى الأبد، آمين.

جاكي جوزيف ضوميط

هذه خرافي

لم أشعر أبدًا بفرح تغلغل في كلّ كياني ولا بسلامٍ بهذا العمق ولم أعهد حبًا كالذّي إختبرته اليوم حين قرأت ما قاله يسوع عن “خرافه”.
“أعرف خرافي”
في ذاك اليوم، يوم “عيد التجديد”، أطلق يسوع وثيقة الحياة الأبديّة لكلّ من يتبعه بالفكر والفعل والقلب واللّسان، وثيقة بنودها الحرّية، الثقة، الإصغاء، البصيرة، الأمانة، الفرح.
هؤلاء “الخراف” الّذين تبعوه وما زالوا يتبعونه، هم أشخاص رأوا علاماتٍ في حياة المسيح، ذهبت بهم إلى أبعد من ذاتهم، أبعد من تفكيرهم الشخصي المحدود، لتوصلهم إلى حقيقةٍ ذات معنى عميق، معنى روحي لا يدركه عقلنا البشري، ففُتِحت بصيرتهم على بداية ميسرةٍ جديدة نحو حياة أفضل وفرح داخلي أكبر مع الجميع، وسلامٍ عميق واثق، جعلهم يدركون أنهم أُخْرِجوا من ظلمة ماضيهم إلى نور الحاضر والمستقبل، إلى الملكوت، إلى حضن الإبن الحبيب الذي لنا فيه الفداء.
هم أشخاص فهموا أن الغاية من كلامه وأفعاله كانت لتظهر تمام إكتماله، وأنه هو هو بالملء، وأنّهم، هم أيضًا مدعوّون للنمو في هذا الإكتمال خلال مسيرتهم بكلّ كيانهم: نفسًا، روحًا وجسدًا، كي تعيش كلمة الحقّ فيهم وتثمر أفعال حبٍّ وتواضعٍ ورحمةٍ تفيض على من حولهم.
“لا يخطفها أحدٌ مني”
هذا ما يحدث مع من يختار يسوع حبيبًا وراعيًا لحياته. لا يعودوا خائفين من المثول، كما هم، أمام حقيقة الله، الحقيقة التي قبلتهم بجروحاتهم وخيبات أملهم، بضعوفاتهم وزلاتهم حتى بخطاياهم وما نتج عنها. لقد إختاروا المخلّص بكلّ جوارحهم وكيانهم، بملء حرّيتهم، بملء ثقتهم به، بملء بصيرتهم المفتوحة عليه، وإكتشفوا حقيقة بؤسهم أمام رحمة الله الحقيقيّة المجّانيّة، الذي ليس له رغبة سوى أن يشفي أعماقنا من كل أثمٍ وسوءٍ نال من حياتنا وجرّها إلى الألم. هم الّذين قبلوا بمشروعه الخلاصيّ لحياتهم، مشروع الحبّ الأبوي الّذي، بغفرانه، قوّى عزيمتنا نازعًا عنّا “الزّقاق القديم” الّذي لم نحصد منه سوى الحزن والمرارة ووجعه.
فهل يستطيع بعدُ أحدٌ أن يخطف هؤلاء الخراف منه؟ مستحيل، لأن الّذي زرع القمح لا يحصد مطلقًا الزؤان والّذي وجد نبع الحياة في صحرائه، بالطبع سوف لن يتخلى عنه، وما من أحدٍ يستطيع أن ينتزعه منه.
ربي وإلهي … لو أردتُ أن أبوح بسرِّك لمن لا يعرِفُك فسأقول لهم:
تعالوا إليَّ وإسمعوا ما فَعلَهُ الربُّ بي
مسَحَ دمعَ مُقلتي وفتحَ لي جنّتي
فخطيئتي قد مُسِحَتْ وخلاصِيَ أُعْطِيَ لي
بصليبٍ مُحتقَرُ وحَمَلٍ لا عيبَ فيه
ماتَ لأجلي دونَ جَدَلْ مُسْتَسْلِمًا لمَحَبَّتي
تجسَّدَ من غيرِ أبْ من عذراءٍ في بيتِ لحم
غَدَا لي قوتًا مُشبِعًا كلَّ يومٍ مُتجدِّدِ
سرٌّ عجيبٌ للأبدْ إختلفوا على فِهْمِهِ
وأرسلَ لِيَ الروح يُعمِّدُني ويُثبِّتُني
يفيضُ بقلبي محبّةً لأحْيا مَعهُ للأبدِ
ربي وإلهي … يا أيها الراعي الصالح، يا أبي السماوي الّذي من محبتك لي لن تتخلّى عني، أشكرك من كلّ قلبي على الدوام فأنا أعرف أنني كلّ يوم أبتعد عنك وكلّ يوم تُعيدُني إليكَ، تُمسك بيدي وتُطعمني بنورك البهي كالنبتة الصغيرة التي تحتاج للنور لتتغذّى وتكبر، يأتي عليها الظلام فتنام ثم تُشرق الشمس فتستيقظ وتتغذّى وتنمو لتصبح مرعًى خصب أو شجرة مثمرة مُشبعة للجياع أو ذات أغصانٍ كثيفة وطويلة يجلس تحتها المُتعبين.
ربي وإلهي … هل أنا فعلاً كذلك أم أحتاج لسنين وسنين؟ ربي وإلهي … أنا أود ذلك فأُسلّم لك قلبي حُبًّا بك وأنا كلّي إيمان وثقة بأنك ستغيّره مجدًا لك فأنا منك ولك. ولك الشكر على الدوام، آمين.
جاكي جوزيف ضوميط

إنّها الثقة

من منّا لم يسمع، على الأقلّ، إن لم يقرأ، مَثَل الوزنات؟ من منّا لم يأخذه بحرفيّته، مقاربًا إيّاه إلى الحياة اليوميّة، مستخلصًا منه عِبرة العين بالعين والسنّ بالسنّ؟ أمّا الصعوبة فتكمن في ما هو أبعد وأعمق.

إنّ كلمة الله لنا تختلف بمفهومها عمّا نقرأه حرفيًّا. نصّ متّى (25: 14-30)، يُظهر لنا، بمجمله، صورة الله الأب، الذي لم يشكّ في عبيده وأمانتهم. كانت ثقته بهم لا حدّ لها، لذلك سلّمهم أملاكه (الوزنات)، كلّ على قدر طاقته، وسافر، لا تهرّبًا بل إفساحًا بالمجال أمام أبنائه لعملٍ مسؤولٍ أكبر، وزيادة في فسحة حرّيتهم في التصرّف. لم يشترط عليهم كمّية الربح، كما وأنّه لم يلزمهم بوسيلة تعاملٍ محدّدة، لأنّه كان يدرك أنّهم أكفاء ونزهاء يستحقّون ثقته. فهو يعرف من هم وما هي قدراتهم، لذلك أعطى الأوّل خمس وزنات والثاني وزنتين أمّا الثالث فسلّمه وزنة واحدة كي لا يحرمه من الحظوة والمكافأة، إن استطاع أن يحسن إداء مهمّته!

هنا تبرز صورة الآب الكثير الرحمة، حيث المحبّة عنده، تتخطّى العدالة التي لم يرَها العبد الثالث، صاحب الوزنة الواحدة، بل على العكس، لقد رأى فيه صورة الدائن، القاسي القلب، الذي لايهتمّ إلاّ لجمع المال، قالبًا حقيقة الخَلْق رأسًا على عقب، بحسب تفكيره المحدود، جاعلاً الخالق على صورة الإنسان المخلوق ومثاله، مُلْبِسًا إيّاه ثوب طاغيةٍ مستبدّ. ثمّ حدّ تفكيره في منطق المديونيّة، لأنّه توقّف عند مَا سمعته أذناه دون أن يفهم طبيعة سيّده وكرمه وكثرة رأفته. لقد خافه دائمًا لذلك كان الأضعف بينهم. لم يرَ فيه صورة الأب الذي، إن أعطى ولده، وهبه بثقة وحرّية. خوفه حجب عنه الرؤيا الصحيحة، وجعله يتقوقع في محدوديته وجهله لمفهوم العطاء، فلم يؤمن به، ولم يعرف التعامل مع العطيّة بحسب ما لديه من مهارات، ولو كانت على”قدر حبّة الخردل”، فدفنها، محوّلاً إيّاها إلى وديعة للحفظ (“أخفيتُ وزنتك ودفنتها”)، فخسرها وخسر معها الحياة.

ربّما نحن أيضًا لا ننتبه انّنا سنَمْثُل يومًا أمام “السيّد عند عودته”، كالإبن الذي يفخر بما حقّقه من ربحٍ أثناء غياب أهله، مهما كان ضئيلاً. فقلّما يهمّ مقدار الوزنات التى ائتمنّا عليها، إنّما الأهمّ هو إرادتنا في جعل العطيّة تثمر، لأن النصيب الأفضل والمكافأة ينتظران كلّ الذين يجتهدون وينتجون في عملهم (“أيّها العبد الصالح…أدخل إلى فرح سيّدك”).

كذلك، على الأرحج، إنّ ما يشغل تفكيرنا أكثر هو عدم تساوي الحصص (الوزنات). وبحجّة الظلم يتحرّك فينا الشعور بالحسد من الذي اُعطي الوزنة الأكبر، فنصرخ لائمين: أين هي عدالتك يا الله؟! ثمّ نمضي في التهويل على رحمته وحكمته، ونُضْرِب عن الدأب والجدّ في العمل بما اُعْطِينا من نعم ومواهب، دافنين إيّاها في مقبرة “خوفنا من الخسارةِ” المستترِ بالغضب، حيث لا من حياة ولا من ثمار، فنكون بذلك قد حكمنا على أنفسنا بالعقم الأبديّ بعد فقداننا حتّى ما نملكه، ورمينا بأنفسنا في المتاهات العقيمة المظلمة، البعيدة كلّ البعد عن حضن الآب.

فلنواجه الآن خوفنا، ولنثق أن الله وضع تحت تصرّفنا كلّ ما في الأرض لخيرنا، واهبًا كلاًّ منّا عطيّة الحياة برأسمالٍ “طافحٍ مهزوز” من القدرات والهبات والمواهب، لا بل أعظم بكثير، وهبنا كلّ ما له، وحيده، يسوع في الأفخارستيا، كي يكون الحاضر دائمًا معنا، ممّا يسمح لنا بالإرتقاء نحو الأفضل والكسب الأكبر، فنصبح بذلك جزءاً من مشروع الحبّ في العالم.

لا نتردّدنّ إذن اليوم في المتاجرة الذكية الصحيحة بوزناتنا، لأنّه وثق بنا وآمن بقدراتنا، عطيّته الثمينة لكلٍّ منّا.

جاكي جوزيف ضوميط

إلى النور

هكذا هي الحياة التي ولَدَتنا في حضن المسيح، جميلة بحضور الخالق ورائعة بفيض حبّه علينا، لكنّها تحمل الكثير من الألم والمرارة. أمّا الرهان على الثبات فهو الإيمان بالخلاص بيسوع المسيح، والتحلّي بالوداعة والصبر والقدرة على الإحتمال التي هي من الرّوح القدس المقّوي والمدافع والرفيق حتى مجيء يوم الربّ.
مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ
• هؤلاء؟ أماتوا شعلة الحياة في قلوبهم واستسلموا لفكر الشرّ، فباتوا يأتمرون به لأنّهم فقدوا كلّ إدراكٍ وضميرٍ في داخلهم، معتقدين أنّ صورتهم تكتمل في قوّتهم على جذب الآخرين إلى حيث هم، فَشيّؤا لنا حبّ الله المجّاني واللامحدود، الّذي لا يعرف التراجع، “لِيُضِلُّوا (حتّى)الـمُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا”، ووضعوا برقعًا برّاقًا على وجهه (الحب) وذهبوا به إلى قلب البشرية يعرضون عريسهم المقنّع على جيلٍ بات بَعضه يتكاسل في عيش الوصايا وعلى رأسها المحبّة ويبحث عن إرضاء ذاته خارجًا عن الله، يرسمون لهم صورًا خياليّة عن ما يتنظرهم من جميل الحياة في اتباعهم، يوجّهوهم في طريق المادّة المادّيّة الملتوي، ثمّ، يدفعون بهم إلى مستنقع الشر النتن
• هؤلاء؟ قنّعوا الشرّ بستار سميكٍ سمَّوه “خير الإنسان” الباحث دومًا عن إرضاء “الأنا” فيه، ليشيحوا بفكره ونظره عن “الخير الأسمى” الّذي هو الله، فألبسوه ثوب التعصّب بإسم الدفاع عن الدّين، وحمّلوه البندقية والقنابل بحجّة محوِ الكفر. لقد نزعوا البراءة الطبيعيّة من حشى الأمّهات الضعيفات بأجنّتها مستغلّين ضعف بعضهنّ، واستبدلوها بحليب الحقد والبغض والإنتقام، فقطفنا جيلاً، منه من يقبل أن تقاوم عينه المخرز ولا يأبه وأصابعه تتراقص مفاصلها، أمّا الشريحة الأخرى تعيش حذرة من الغدر بالسلام الداخلي الّذي يتحلّون به وبالكلمة التي تنبض فيهم حياة. أيّة حياةٍ هذه؟ أيّ حبٍّ هذا الّذي لا يعرف الرحمة حتّى أنّ العدالة تودّ لو تنتحر أمامه في أغلب الأحيان؟
لقد أنبأتكم
عندما ترى الحجر يُرمى عليك يمكنك أن تتفاداه خاصّةً وأنت حاضرٌ في قلب الصراع. أليس هذا ما لفت يسوع أنظارنا إليه؟ لقد نبّهنا من كل تلك الشرور الآتية صوبنا وهدفها أن ترمينا أرضًا كي تنهشنا رويدًا رويدًا. أرادنا أن نبقى متيقّظين لأنّ يوم اللقاء يأتي دون إنذار، فكيف سنَمثل أمام الله في تلك اللحظة؟ هل ينفع ندم اللحظة الأخيرة وقتها؟ هل نحمل في جعبتنا أسفًا ويأسًا أم سلامًا وثباتا حتّى ولو كنّا مجروحين من الصعاب والتجارب المؤلمة والشرور؟ بماذا ينفع عولنا وبكاؤنا وارتجافنا خوفًا على مصيرنا؟
كلّنا نعلم أن الله واضحٌ في تعليمه وما يقوله يعلنه من “على السطوح”، فلا مُواربة ولا أقنعة ولا خجلٍ ولا محاباة فيه. لا نتذرّع إذًا بالمسيح كي نفعل ما يحلو لنا، بل من أولئك النسور القديسين الّذين يجتمون حول يسوع المصلوب كي يأخذوا منه القوّة والإنطلاقة نحو قيامةٍ أبديّةٍ ولا أروع في مجد الله الآب.
جاكي جوزيف ضوميط

يغادر

يغادر هذا العالم كما يغادر الجنديّ بيته ويمضي إلى حضن أمه الدافئ
يترك خلفه سنابل قمح شقّت العتمة وانحنت تعبًا من عبئ أرضيات أتعبتها
عرف أنّ موعد الرحيل أقرب مما يتخيله الجميع
وفرص الحصاد باتت قليلة
وأنّ الطريق ينتظره لتقوده إلى حيث أنت يا يسوع
يغادر قبل أن يغدر به هذا العالم الفاني
وقبل أن يغدو عاجز عن التفلّت من مستنقع الشهوات والمصالح
يرحل كما ترحل طيور تقودها لهفة اللقاء بخالقها
يرحل أكيدًا أن أجنحته لن تخونه فهو خلق ليكون نسرًا محلِّقًا في أعالي السماء
يترك خلفه تراب فاني لا يدوم
شهوات وخطايا مميتة
أملاكًا وسعادة لا طعم لها
يبتعد كي يخلو المكان من قلق لم يتركني مذ بدأ العالم يبتعد عن معنى السعادة الحقيقية، يتمسك بسعادة عابرة
عابرة كما تعبر النيازك التي تولّد الأمنيات وتنطفئ
تحمل روحه الأمل وتمشي بلا أثر أو خيال
يغيب في نور يعيد تكوينه ليولد من جديد.في حقيبة الأمل وضع قلبه الجديد
هناك إلى جانب الحبّ الإلهي
والنعم الفائضة
والسعادة الأبدية
جعلت لخطاه الجديدة مكانًا آمنًا
فلا يخسر نفسه في رحلة الحياة الجديدة
ولا يضيّعها حين تبحث عن سبب الخلاص الحقيقي
الذي سيجعله أكثر حكمة وأكثر سكينة

يغادر هذا العالم الفاني
والملائكة تستدعي بصوتها الشجيّ الطبيعة مهللة فرحًا
فتفرح السماء بعودة ابنها الضال
ذاك الإبن الذي ارتفعت أعينه نحو الخلاص و قلبه فرح لا يلتفت إلى الوراء
تخلّى عن كل ما هو أرضي وأشبع قلبه بحب إله يفوق حبه العقل والخيال
أفلت حبال الأرضيات والسعادات العابرة الزائلة وغمر نفسه بخلاص وسعادة لا تزول
تخلى عن دعسات معركة أرضية لا نجاة منها،
عن دروب نما الشيب على مفارقها
عن أرض تجعّدت بشرتها
فعرف الجندي أنّ في انتظاره انتصارات جديدة في أرض أجمل من ساحة المعركة هذه

كل ذلك حين سمع الجندي همسك في أذنيه يا إلهي وأنت تدعوه ليستريح
ليعتزل القتال في عالم يحتفي بالفناء
وليهلّل لأبطال السماء وليس أبطال الأرض
تدعوه ليرمِ قضيّته الأرضية في الوحل ويمض نظيفًا خفيفًا حرًّا
تحثّ الجنديّ ليسرع لأن ما في انتظاره أجمل بكثير من معارك أذرفت دمه وقضت على روحه
تذكره أنّ الأبطال الحقيقيّين هم الذين غرقوا في حبّك
فليكن غرق
ولتكن قيامة
لأن خلاص أتى

يحمله حبك ويمضي به خارج إطار الأرضيات
ليصير صورة عنك فأنت وحدك الخلاص والفرح والحب والسلام وبك وحدك يتسلح كلّ منا ليحارب إغراءات هذا العالم وشهواته
بك وحدك يا يسوع ننتصر.

جاكي جوزيف ضوميط

عيد إرتفاع الصليب المقدس

في البدء، كانَ الناس يأْتونَ بذكرِ الصليبِ ، فيظهر بينَ سُطُورِ أعينِهِم معجمَ الحزنِ، وكأنَّ تلكَ الأخيرة تنوهُ عليه وَتصبحُ على حافةِ ذرف الدموع على العذاباتِ التي شهدَها.
فالعواصفُ الانسانيّةُ كانَت ترى الصليبَ فتبكِيه وترثِيه وتندبه.
منذُ بداية الأجيالِ وَالبشر يخافونَ الضعفَ بالصليب.
منذ بداية الأجيالِ والصليبُ هو الهمُّ والوجعُ والألمُ على أكتفِ البشر.
منذ بداية الأجيالِ والبشرية تخافُ من ألمِ الصليب.
منذ بداية الأجيالِ والصليب مأوى الخطأة يذرفونَ عليه دموعَ أنفسِهِم الأخيرة قبل أن يَسلُب البشرُ منهُم حياتَهم.
ذلكَ حتى جاءَ من يَقلُب موازين العالمِ كله ويعطي لحياتِنا معنى جديد.
ذلك حتى جاءَ المخلِّص وافتدانا بصلبِه على خشبةِ عود العار.
إذا كانت كلمةُ الصليبِ عند الهالكينَ جهالةً وعثرة فإنّ الإيمانَ بالصليبِ والمصلوبِ عليهِ هو وسيلةُ الخلاصِ وهو يُعلِن قوةَ المسيحِ المصلوبِ ورحمتَهُ ومحبتَه وفداءه.
لَمْ يَعُدْ صليبُك يا مسيحي، ضعفًا.
جَعلْتَ الصليبَ قوةً ولكننا هل نفهم حقيقةً معنى القوة الحقيقية؟
لم يَعُد صليبُك طائرًا مكسورَ الجناحينِ
بل عاصفةً هوجاء تكسر بهبوبِها جميعَ الاجنحةِ المعوجّة.
هو لمْ يجيء من وراءِ الشفقِ ليجعلَ الالمَ رمزًا للحياة.
بل جاء ليجعلَ الحياةَ رمزًا للحق والحرية.
هوَ ليس مكانًا ساكنًا عُلِّقْتَ عليهِ فى أحدِ الأيام . بل هو قاعدة حركةِ قلبِ الرب نحو البشرية كلها.
كان فى مظهرِه الخارجى تعبيرًا عن ظلمِ العالم ، أما من الداخل فكله سرورٌ وحبٌ وتسليمٌ للآب لأجل خلاص العالم.
هو المنارةُ التى أُوقِدَتْ عليها نورَ العالم ،الذى من قِبَله صرنا نورًا للعالم .
فكم وكم كثُرت معاني صليبِك إلهي، لكن أهمّها واحد.
إن الصليبَ أقوى درجاتِ الحبِ وأعمقَها .
هو تجسدُ حبّك اللامتناهي الكامل
فعلى خشبتَي هذا العودِ، مملوء بالدم والدموع، أظهرْتَ حبَّكَ للبشرية
صُلِبت لتقول لأبنائك: أنا أحبكم
لم تُصلَب لنرى بصلبِك الحزنَ والرثاء
صُلِبت لتعطِي لسعادتِنا حياة، لحياتِنا معنى، لقلبِنا حب، لروحِنا خلاص
أَنظُرُ إليكَ ربِّي مُمَدَّدًا على الصليبِ، فاتحًا يدَيْكَ لتَنْتَشِل منّي حزنَ هذا العالم الفاني وأوجاعَه. تَنظُر إليّ بِعيناك المَلِيئَتَيْن حب لأغرَق في بحرهِما وأجدَ فيهِما آخرَ زورقِ خلاص.
فكَمْ سأرتاح عندَما يَتَرَبَّع صليبُك على كَتِفَيَّ يا مسيحي، فهو سعادَتي وخلاصي. به أتَمَسَّك للهروبِ من مستنقعِ أوجاعِ العالم.
صليبُك يا إلهي هو حب. فارفعي يا بشريةَ الصليبَ عاليًا، وهلَّلِي المجدَ للآبِ والإبنِ والروحِ القدس، لأنّ الصليبَ قتلَ الموتَ، و بهِ، ستقتُلين الشرَّ وتنشُرين الخيرَ، به ستُخَلَّصْ نفسَك، بصليبِ مسيحِك افتخري!
جاكي جوزيف ضوميط

!لنَكُن القريب

كم حاولت أن أفهم سبب قساوة قلب الإنسان تجاه الآخر، لكنّ الجواب كان دائمًا يصطدم بالـ “أنا” الّتي لا تملّ من التبرير بأنها وحدها تُكوِّن عالم المرء، وأنّه لا قِيَم خارج الذّات، مهما كانت كبيرة وتوحي بالكفاية، يمكنها أن تُحتَسب أو تُقاس إلاّ بقدر ما تتلاءم مع عالمي الخاص، مع مملكتي، حيث أنا السيّد، سيّد نفسي، والّذي يشكّل قيمتي هي ذاتي وحدها والّتي هي مُلكي.

من هنا بدأت أتلمّس طريقة تفكير هؤلاء الناس الّذين لا يكترثون للرحمة ولا للحبّ المجّاني نحو الآخر، إذ بحسب إعتقادهم أنّ ذلك ضربٌ من الجنون وفيه الكثير من المخاطرة وكأنّ ذلك الفعل هو قفزة في المجهول تدفعك إلى التخلّي عن ذاتك، عن الأنا، من أجلِ فعلِ رحمة وحبٍّ للآخر لا يجلبان إلاّ الإنقاص من “الكرامة” ولا يسبّبان سوى هدر للوقت والتلهّي عن الأهمّ.

في قصّة السامري الصالح، نرى أنّه كان هناك جريحًا مضرجًا بالدماء معرّى من ثيابه، مرميًّا على حافّة الطريق. يمرّ به كاهنًا ثم لاويًّا – ومن الطبيعي أن يكونا متخصّصان في الليتورجيا وطاعة كلّ ما تطلبه الشريعة – لكنّهما لم يكترثا لأمره، بل حادا عنه ولم يرمش لهما جفن. هما يعرفان تمامًا أنّه بمجرّد لمسه سوف يتدنّسان (بحسب الشريعة)، فلم ينظرا إليه كإنسان فيه من روح الله الّذي يعبدانه، وتناسيا أنّ الوصيّة الثانية من وصايا الله هي “أحبب قريبك حبّك لنفسك”، فلم يحفظا منها سوى “أحبب نفسك” وأغمضا أعينهما عن “القريب” وأكملا طريقهما لا لخدمة الله الحقيقيّة بل لإرضاء الأنا والكبرياء فيهما، فطهارتهما كانت لهما أهمّ بكثير من روح الإنسان المتألّم، المجروح، المحتاج لمن يقف بجانبه…

أمّا السامريّ فتوقّف وإعتنى بجراحات هذا الرجل.

لم يجلس للتفكير في مساعدته، ولم يتردّد في النزول إليه ليضمّد ويبلسم، ليغمره بالحبّ ويعوّض عليه فجور اللصوص وقساوة قلب من يحسبون أنفسهم أنقياء. لماذا فعل ذلك؟ ربّما ليس لديه الجواب إن سألت. لكن بالنسبة إليه هذا أمر طبيعيّ لم تعلّمه إيّاه الشريعة لأنّه ليس بيهوديّ، بل كان ما فعله ثمرة الحقيقة الطيّبة المحفورة في قلبه وقلب كلّ إنسان منذ تكوّن، حقيقة أن يكون هو القريب لكلّ من يلتقيه ويقبل به، فكان ذاته كما أراده الله أن يكون.

أليس هذا هو الحبّ الحقيقي؟ أليس هذا هو الإيمان بالكلمة المحيية بالفعل وبالقول؟ ألا نرى في هذا الرجل المجروح كلّ إنسان وكلّ الإنسان لا بل الإنسانيّة جمعاء، بكلّ ما فيها من جراح ونقائص؟

والسامريّ! أليس هو يسوع الّذي جعل ذاته “القريب” الّذي يحبّ ويشفي ويعتني؟ أليس هو من يضع ثقته في الآخر كي يكمل ما قد بدأه: يؤمّنه على أخيه الإنسان الضعيف… ويطلب منه أن يفعل ويكون “القريب”، على مثاله؟

فإن كنّا نؤمن بأنّنا أبناء لله- المحبّة، المخلوقين على صورته ومثاله، وإن كنّا نؤمن بأنّنا سرّه الأجمل والأقرباء الوارثين، فلنثق بأنّ ليس هناك من مكانٍ أروع من الإنسان (“القريب”) يتفجّر فيه حبّنا المنطلق من قلب الله نحو قلب الإنسان في حركة تناغمٍ تتخطّى الأنا، قلّما نفهمها إن لم ندخل فيها بعمق.

ربي وإلهي … رقصَ قلبي اليوم فَرَحًا حين علمتُ أن مواهب روحك القدّوس هي ليست فقط لباسٌ أرتديه لأُحارب به إبليس وأعوانه ولكنها قَبْلَ ذلك هي وسيلة عيش “المحبة”، هي ثوب البر الّذي يجعلُ مَن يراني يُميّزني بأنني أنتمي لك فأنت “محبة”. فروح المعرفة تُعلِّمني المغفرة والرحمة تجاه الآخرين، وروح الحكمة تُعلِّمني التواضع والإقرار بخطيئتي نحوك ونحو الآخرين، وروح المشورة الصالحة تُعلِّمني تعزية الحزانى ومحبة القريب، وروح المثابرة والجَلَد تُعلِّمني الشوق لكَ والعطش للبِر، وروح الفهم وروح التقوى تعلِّماني الوداعة والثقة بكَ وتسليم الذات لكَ، أما روح مخافة الله فتُعلِّمني أن أحبك فوق كل شيء وأعمل مشيئتك بنشر المحبة والسلام. أجل، إن الروح القدس الّذي وَهبته لنا لتفيض محبتك في قلوبنا يجعلنا جسدًا واحدًا بروحٍ واحدة: روح إبنك الحبيب، روح “محبة”.

ربي وإلهي … أشكرك مِن كل قلبي على كل نعمك التي أعطيتنا إيّاها مجانًا، وعلى رحمتك التي بها تتحنّن علينا وتستجيب لطلباتنا، أشكرك لأنك إله محبة ولم تتردد في أن تُرسل لنا كنزك الثمين لتملأ قلوبنا من ذاتك… يا رب، أود أن تتحنن علينا الآن وتستجيب لنا بحسب مشيئتك، فلقد مرَرْتُ بشوارع العالم ورأيت الكثيرين على الطرقات، هم أموات لا أعلم أم قد أدمتهم جراحات الخطيئة لا أعلم، ولكني أود أن أُخبرهم عنك وأُعطيهم مما أعطيتني إياه وأجلبهم لكَ لتعيد لهم الحياة وتضمّد بيدك جراحاتهم فتسكب عليهم من روحك القدّوس فيُخلقوا من جديد… يا رب، يا مَن سترت عيوبي إستجب لي وأنا سأشكرك على الدوام وأُسبح أسمك القدّوس وأُخبّر بما فعلته لي وبمحبتك لي بأعمالٍ تُرضي إرادتك المجيدة، آمين.

جاكي جوزيف ضوميط

!ألله محبّة

قصّة ما زالت تشعرنا حتّى اليوم بطابعها الغريب، الخارج عن نطاق اللياقات عند الأشخاص “المحترمين”.
نشتمّ فيها رائحة الجسد وطعم الشهوة في عطر تلك المرأة وشعرها. دموعها وسلوكها العاطفيّ يأخذ العقل والتصوّر في رحلةٍ إلى مخدعها، حيث عشعشت فيه الخطيئة لسنوات.
أمّا عمق هذه القصّة، فهي محضُ روحيّة، وثمرتها توبة “جنونيّة”!
إنّها تجعلنا نرى فيها نوعًا من شعائر يؤدّيها أيّ خاطئ يتوب حقًّا عن آثامه: لقد سجدت تبكي معاصيها بصمتٍ، تعترف -معانةً بدموعها- توبتها العميقة. أسدلت شعرها، مفخرة ما كانت عليه، وبدأت تلفّ به قدميّ يسوعَ خاشعةً، متعبّدةً… فيكمل يسوع بتهيئة ذبيحته الآتية، واعظًا، بمثل المديونين، الجماعة المذهولة أمام ما يحدث، ويفتح أعينهم على محبّة الاب في فيض نعمه الكثيرة في المسامحة والمغفرة. وأخيرًا يشجّع تلك الآتية بكلّ ثقةٍ وأيمان، دون أن يمسّ كرامتها بحرفٍ أو بكلمة، بل يتركها تذهب بسلام، مُصالحةً مع ذاتها ومع يسوع.سمعان الفرّيسيّ لم يرَ إلاّ فعلاً ساقطًا قامت به “الخاطئة”. أمّا يسوع، فلم ينظر إلاّ إلى قلبها المنسحق الصادق. لم يشعرها بالخجل، ولم يخلط أوراق روزنامتها الحاليّة بماضيها، بل كان ذاك الطبيب اللطيف الّذي انتزع ورمها الخبيث وشفاها.
كذلك أراد شفاء سمعان الفرّيسيّ، فدخل إلى أعماقه كي ينتزع منه الجواب، ونجح. فأدرك هذا الأخير خطيئته، ولم يكن يعلم أنّه بجوابه هذا، قد أدان نفسه بنفسه، ففهم، بعد الصدمة، أنّ السؤال الأصحّ ليس “من الّذي خطئ أكثر؟” بل “من الّذي أحبّ أكثر؟”، بمعنى أوضح: من الّذي تعرّف حقًا إلى عظمة غفران ومحبّة الله في حياته؟لقد رغب يسوع من سمعان، أن يدرك عدم جدوى التظاهر بالبرارة، وتعظيم خطيئة تلك المرأة التائبة. أراده أن يدرك عدم جدوى التفاخر بما ناله من متطلّبات الحياة في النِعم الأرضية وحتّى الروحيّة منها، أمام تلك الّتي سلكت الدرب الوعرة والمعوجّة، لأسبابٍ نجهلها… آفة التفاخر تلك، تلغي تبكيت الضمير عند اقتراف الخطأ، فلا تعد الخطيئة تسبب مشكلة أو عبئاً على المتكبّر. ففرّيسيّين كنّا أم خطأة، مرسلين أم متنسّكين، ما من سلامٍ داخليّ دون رحمة الآب وصحوة الضمير.
اليوم أصبحت الخطيئة عظيمة إلى حدّ التفلّت والفحشاء، ولا من يكترث!

فهل تحرّر العالم من الضمير، ومن مخافة الله، فأصبح يعدّ الخطيئة مجرّد وهمٍ، لا أساس له في الحياة المعاصرة؟ هل توافقني أنّ نتيجة ذلك، يعني نكران النّور الّذي، وحده يستطيع أن يكشف ويشفي مرضنا الروحيّ؟
لنثق أنّه في هذه الفسحة يلتقي بؤسنا وخجلنا مع رحمة الآب. إنّها فسحة لقاء الحبيب، وتذوّق الحبّ الإلهيّ الحميم. هناك تُعاد إلينا فواتير الدّين كلّها، ممهورةً بخاتم يسوع :” لقد سُدِّد بالكامل…يسوع”.
أيها الحبيب، دلّني طريق التواضع الحقّ، طريق القلب، واحرق بنار حبّك، غروري، وكبريائي، وتمحوري حول ذاتي. أشعل قلبي بحبّك، فأنشد القرب منك، والرّاحة في حضنك ليل نهار، آمين.

جاكي جوزيف ضوميط

توبة المرأة الخاطئة

الحبّ يتكلّم
في طفولتي ما كنت أتردد مرةً في مصالحة والدي، عند إرتكابي لخطأ ما، ولو بحركة بريئة لا تخلو من حاجتي إليه وإلى حبّه الكبير لي. كنت على يقين أنه لا ينتظر قطعة “الشوكولاه” التي كم من المرات كنت أدسُّها بخفّة في جيبه، ولكن فعلي ذاك ما كان إلا ليعبِّر عن الإعتراف بخطئي والتأكيد على كثرة محبتي له.
يا للطفولة الصّادقة !
كم أرى بها تلك المرأة الخاطئة على أقدام يسوع، ولو أن ” الوالد ” هنا هو شخص لم ولن تنْجِبه أرض ولم ولن يطأها أحد مثله مدى الأزمنة. أما المرأة، فهي كتلة أحاسيس شفافة، صادقة تنشد الشفاء، إلى درجةٍ أنّها لم تخجل ولم تأبه ولم تُقِم لمشاعرها وزنًا أمام ردّة فعل الآخرين تجاهها، فكان لها ما أرادت .
ما الذي كان سيد الموقف ؟
أهو الحبّ الذي أدّى إلى التوبة ؟ أم التوبة هي التي أدّت إلى الحب ؟
الجواب يكمن في ما قاله يسوع :” يُغفر لها كثيرا لأنّها أحبّت كثيراً “. بعبارة أخرى ، لقد كانت واثقة من أن مغفرتها مؤكّدة، هي التي سمعت وعاينت ما صنعه يسوع، وآمنت بقدرته على مغفرة الخطايا، وعثرت على الحبّ المفقود ، الّذي لم تجده لا في أي مكانٍ ولا مع أيٍّ كان.
لم تطلب الغفران بالكلمات بل بكت: بكت على السنوات الّتي أمضتها في مهبّ ريحٍ، وتطايرت نفسها مع كلِّ هوًى. يا لها من إمرأة واثقة في الذي وجدته، فأحبّت، صمّمت، وآمنت بأن يسوع وحده قادرٌ بأن يعيد لها سلام القلب المُهاجر.
لا نخافنَّ إذًا من خطيئتنا بل لنواجهها بالحبّ الكبير للحبيب يسوع، لأنّه، مهما يكن من أمر، فهو يؤكّد لنا من خلال “المرأة الخاطئة” بأن العالم كلّه سيخلص ما دام هناك حبّ كبير يحرك حياة الإنسان من الدّاخل ويصبح مرئيًّا بالثمارالطيّبة لأفعالنا: إنه الحبّ الأقوى، حبّ الآب الّذي يتخطّى كلّ ضعفنا وأخطائنا.
إنه غفران الحبيب للمحبوب دون إذلاله أو الإشارة إليه بإصبع الإتهام.
إنه الحبّ الّذي يخرسن ألسنتنا ويكمّ أفواهنا عن تعداد المعاصي وترداد العبارات الروتينيّة، وادِعًا النفس تسكب ذاتها بما فيها، فتفيضُ عطرَ توبة ودموع ندامة على أقدام الحبيب، ويلتقي الغفران بالحبّ، فتولد الحياة ثمرةً مقدّسة.
ربي وإلهي … حين أنظر إلى الصليب هل أشعر وأؤمن بمغفرتك لخطاياي؟ هل أشعر وأؤمن بمحبتك لي؟ هل أغار على قُدْسيَّة أسمك كما غِرت أنت علينا وإفتديتنا بإبنك الوحيد؟ سأكون صريحةً معك لأن أفعالي تقول بأنني لا أشعر بهذه المحبة، لأني لو شعرت بها وملأ الإيمان كياني لبادلتك بمثل هذه المحبة ليس فقط بالإعتراف بخطيئتي والندامة عليها وتغيير أسلوب حياتي ولكن أيضًا لغفرتُ للآخرين إساءتهم لي وبالتالي لأظهرتُ لهم ألوهيتك “الله محبة”، فالمحبة تقابلها محبة. لو بادلتك المحبة لأصبحت قدّيسة بتصرفاتي لأنك قدّوس، لأصبحتُ مرآة لبرّك كما فعل الرب يسوع.
ربي وإلهي … هبْ قلبي محبةً صادقةً نابعة مِن الأعماق وليس مِن الشفاه فأصبح إبنة حقيقية لك، ولك الشكر على الدوام. آمين.
جاكي جوزيف ضوميط