رعيّة رشدبّين

أحد آية شفاء المخلع

قصّة أخرى من الشفاءات الكبيرة التّي أدهشت حشود القرى والمدن: شفاء مخلّع. ولكن من هو بطل قصّتنا اليوم؟
في كفرناحوم أي بيت الرّحمة، ملأت الجموع البيت حيث كان يسوع يعظهم بكلام الله، وازدحمت إلى حتّى سدّت كلّ منفذ إلى الداخل.
الجميع يسمع تعاليمه، الكلّ يصغي بتدَيُّنٍ طبيعي! كلّ شيءٍ يسير على ما يُرام. مشهدٌ متكامل.
فجأةً “يأتي إليه أربعة رجالٍ يحملون مخلَّعًا، عجزوا عن الوصول إليه لكثرة الزحام”(آ:3و4).
في المحلّة لم يتحرّك أحدٌ. ما من أحدٍ انبثّ ببنت شفة ولا علا صوت أحدهم كي يفسحوا المجال لمرور الجماعة الصغيرة نحو الدّاخل. ظهورٌ تكدّست فوق ظهورٍ أقسى من الحجارة، إنتصبت حيطانًا لا تسمع الأنين ولا ترى التخلّع ولا تشعر بالوجع، حبست يسوع في قوقعتها، وحجبت كنز رأفته وحبّه عن واقع الإنسان المتألّمِ وكأنّه أصبح ملكًا حصريًّا لها، ولها فقط….
وفي أفق الأنانية ذاك، تكشّفّ إيمان تلك الجماعة الصغيرة التّي تحمل حبيبها المخلّع. هو المعوّق الّذي سلبه المرض كلّ حركة، فبات غير قادرٍ على العمل، أو الإرتباط أو حتّى التسلية والتنزّه أو مساعدة الآخر عمليًّا. لقد تسمّر على صليب الإعاقةِ وتجمّدت معه الطموحات والأحلام، كما قد هجرته الأفكار الجميلة. لقد بات مرتبطًا بمحبّة الآخرين له.

نرى المخلّع يتنقّل بأقدام الرّجال الآربعة ويرى بعيونهم ويسمع بآذانهم التي رصدت مكان يسوع، فأتوه به. قبل أن يحملوه بقوّة أذرعهم، حملوه بقلوبهم، بصداقتهم. بتضامنهم حملوا سويًّا وجع من اتخذوه أخًا لهم، مظهرين كلّ رحمةٍ وحبّ: لقد آمنوا أنّ اللقاء الشخصيّ مع يسوع هو قادرٌ أن يغيّر حياة أخيهم، فلم يتردّدوا في أن يلتفوا من وراء الجموع المحتشدة.

و…أيّة جموعٍ تلك؟
جموعٌ مضيّقة على يسوع وحاجبة نظره وسماعه عن آلام الإنسان، لم تلحظ حتّى تلك الحالة الّتي تستدعي انتباه أيّ كان عند صعودهم بالمخلّع الدرج الخارجي للبيت. ما من أحدٍ من كلّ “الزاحمين” بادر بإفساح الطريق أمامهم! صعدوا السّطح ونقبوا وما من أحدٍ حرّك ساكنًا، وكأنّ عاهات الموت قد أصابتهم فأصبحوا كالعميان ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون، لهم أفواه “تخرسنت” وجسدٌ تشلّل. شيءٌ يثير التعجّب؟!.

من السّماء هبطت “خيمة” يستظلّ في فيئها متألمٌ صامتٌ ضاعت منه الكلمات على طريق “جبل طابور”. تبادُلٌ في النظرات، حديثٌ من القلب إلى القلب خيّمت عليه ثقة رجالٍ أربع بالربّ الشافي، أتت جميعها كي تجسّد كلّ ما كان يعلّم به يسوع عن ملكوت الله ورحمته الفائقة، فتفجّرت كحمَمِ البركان بعد سكونٍ طويل: هذه الرّوح المتّقدة في أحشاء هؤلاء الرّجال هي نفسها اليوم، توقظ في أعماق القلب الخاشع المصغي، ذاك الصوت الرّقيق الهامس الّذي يدلّنا عليه (على يسوع) في الآخر، يدّلنا إلى الذّهاب إلى حيث لا يقبله عقلنا المحدود بالمادّة، إلى “أبعد ما نعتقده مستحيلاً”. ما فعله يسوع أتى تأكيدًا على ما كان يعيشه هؤلاء الرجال في مساندتهم لبعضهم البعض. حملوه بإيمانهم، وبمسيرتهم قد تحرّر. بثقتهم المتبادلة وإيمانهم، تحرّر مريضهم من “ذنب” آبائه، مستعيدًا كلّ ما جرّدته منه التقاليد الظالمة والأحكام الجائرة، مكلّلةً بتعزيةٍ ما بعدها تعزية خرجت بكلّ الحنان من فم يسوع :” يا ابني”… لقد وُلِد من جديد وما عادت النظرات الحاسدة والمُدينة، ولا الكلمات الجارحة لها من سلطانٍ عليه: مع الجماعة، لقد ربح نفسه بغفران خطاياه، واستعاد حياته بشفاء تخلّعه، وفتح عينه على بنوّته لأبيه السماوي. ولادة جديدة من عَلو.

لنا نحن
في أيّ دائرةٍ نحن اليوم بالنسبة إلى يسوع النقطة الجوهرية؟ ليتموضع كلٌ منّا في المكان الذّي يرى نفسه فيه وليثق أنّ هناك الكثير ممّن يحيطون به كي يسلكوا سويًّا نحو الولادة الجديدة، ولا نخاف من تخلُّعنا بل من قلّة إيماننا، ولا من فقدان بصرنا بل من فقدان بصيرتنا، ولا من الآذان الّتي تتنصّت وتتعقّب تحرّكاتنا بهدف الأذيّة، بل من الحيطان الّتي تمنع آذاننا عن الإصغاء لكلمة الله وتشلّ عملنا وحركتنا في التقّدم صوب حضن الآب. آمين.


جاكي جوزيف ضوميط