رعيّة رشدبّين

Month: March 2019

مثل الإبن الضال

ضرب يسوع مثلا (لو ١٥) عن إبنٍ ضالٍ، سعى في طريقه، متّبعًا أفكاره في الحياة، لا يُملِ عليه أحد ماذا يفعل، حرًّا طليقًا من أي قيد. طلب الإبن من أبيه أن يأخذ نصيبه من الميراث، بكّل وقاحة يقدّم هكذا طلب لأبيه، رافضًا نعيم الأب ساعيًا وراء حرية مجهولة. لكن ردّ فعل الأب كان مثيرًا للعجب، لقد أعطى إبنه مُبتغاه! لماذا يا رب تركته يذهب في طريقه؟ لماذا سمعت لكلامه؟ أنت تعلم جيدًا الى أين سيذهب وفي أي طريق سيسير، فلماذا لم تمنعه؟! تركته وإحترمت قراره، وكأنك يا رب تريده أن يجرّب البعد عنك.

ذهب الإبن وتُرك لحريّته واختياره مع أن أباه يعلم كل شيء ويعتصر قلبه حزنًا عليه. سار في طريق الحرّية التي أرادها فتبع شرّ قلبه، لكن الحياة كانت صعبة، والخطيئة كانت كبيرة، فدار الزمان على من كان سيدًا فصار عبدًا “يشتهي أن يملأ بطنه من الخُرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطيه أحد”. قرر العودة، ولكن أي عودة؟ إذا عاد سيضحك عليه أبوه ويعيّره بأنه لم يسمع لنصائحه، سيصبح منبوذًا، هذا إن قبله أحد أو قبل الكلام معه، فمن سيقبل الضالّ الذي “بدد ماله في عيشة إسراف” متّبعا شهواته؟ لكن شتّان ما بين تفكيره وتفكير أبيه. كان الأب ينتظره كل يوم، لأن حنانه يفوق غباء إبنه، فرآه “وكان لم يزل بعيدًا، فتحرّكت أحشاءه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً”. ما أروع حنانك يا رب! كنت تنتظره كل يوم، مع أنه تركك، وكان من الممكن ألا يعود أبدًا. لكن قلبك أكبر من خطيئته، وحبّك له أكبر من معصيته لك، وإحترامك لقراره أعظم من إحتقاره لنعمتك، حتى لو علمت أنه ذاهب الى أقذر الأماكن.

بعد طول انتظار تم اللقاء بين الأب وابنه الضال، العائد إلى أحضان أبيه الذي ولده من رحم الحب. لقاء كلله نور السماء بالفرح والمسامحة أمام توبة هذا الولد الكبيرة، بسكب قلبه بصدق أمام أبيه. لقد وضع ذاته بين يديه كما لم يفعل من قبل، متمنيا أن يولد من جديد، أن يولد من فوق، أن يعمد، بشوقه إلى السلام الداخلي والكفاية والفرح، بحب الذي لم يبخل به عليه ولو لمرة. لقد وصل إلى شاطىء الخلاص بعدما كاد أن يموت غرقًا في بحور الدنيا، بعيدًا عن الحضن الأبوي. لقد آمن بإمكانية الحياة من جديد، لكنه لم يكن بعد يدري عظمة غفران أبيه له وما ينتظره عند عودته. لم يستطع أن يفكر كأب رحوم، بل رضي بأقل ما هو ممكن من متطلباتت الحياة: وزر الخطيئة كان أقوى من فهمه لحب أبيه الكبير له.

أما الأب فلم ييأس ولو للحظة وإلا لما كان يراقب الأفق كل يوم منتظرًا عودة ابنه. ويوم عاد، سكتت لغة العتاب والمحاسبة. فالفرحة كانت عظيمة، وتجلت بجملة أوامر تختصر مدى لهفة انتظار هذه اللحظة: “أسرعوا، هاتوا أفخر الثياب، ألبسوه، ضعوا الخاتم في إصبعه، وحذاء في رجليه، قدموا العجل المسمن، فنأكل، ونفرح.”

لكن الأهم من بعد الإبن الضال هو جهل الإبن الأكبر. مشكلة الأخ الأكبر هي بصيرته المحدودة. لقد رأى في رحمة والده نحو أخيه العائد، ظلما وبهتانًا. لم يدرك أن يوم “قسم لهما أملاكه”، قد حصل هو أيضًا على نصيبه من الميراث، وكان بإمكانه أن يفرح ويتصرف بحصته كما يشاء هو أيضًا، بل ذهب بعماه إلى أبعد من ذلك ربما: لقد خاف على حصته، وارتبك لفكرة أن يغير الوالد وصيته، فيقسم من جديد حصة الأكبر مع أخيه “المبذر”… ثم ما لبثت أن تكشفت حقيقة مشاعره نحو أبيه: ” خدمتك ولم أعص لك أمرًا”، وكأنه كان عبدًا مقيدًا بالأوامر، يخدم طمعًا في الحصول على تقاعد في نهاية خدمته (الميراث) . لقد وضع الأبوة والبنوة خارج منطق العائلة الواحدة، رغم تواجده معه تحت سقف واحد. لم ينظر إلى الشركة في الحب والعطاء، ولا المشاركة في” الخبز الواحد”: لكل حصته وشؤونه وحياته.

ماذا بعد؟
إن الآب محترم لحريتنا، التي خلقنا عليها، إلى أقصى الحدود. وإلا لكنا “تبعيين” ملتصقين به، لكن دون أن نختاره ونحبه كأبناء خليقين به، قادرين على العودة إليه والتمسك به بصدق إن ضللنا. ولاكتشفنا أيضًا مدى تواضعه اللامحدود تجاهنا، وفرحه الغامر في كل مرة نتوب إليه. لاكتشفنا لهفته للعودة معه إلى بيته كي نتقاسم وإياه كل ما يملكه حتى ولو آلمناه بتعنتنا وسوء تصرفنا.
لاكتشفنا أن مأساة خطيئتنا تكمن في جرح قلبه الوالدي الذي سرعان ما يغفر لنا منتصرًا على ألمه باتقاد عطفه وحنانه في عمق أعماقه. صابر هو في انتظاره، لا يتعب ولا يمل هذا الإله – الأب. إنه يحيا فينا ويشعرنا بكثرة محبته دون أن نراه، إنما نعرفه بأبنه الوحيد يسوع المسيح الذي أتانا من حشاه.

ماذا يبقى لنا؟
لنسأل أنفسنا الآن كيف يمكننا عيش هذا الإنجيل. يقول القدّيس بولس: “من كان في المسيح، فهو خليقة جديدة”. لقد صالحنا الآب بابنه يسوع، وألبسنا الحلة والخاتم والحذاء يوم أخذ علتنا وعاهاتنا وعلقها على الصليب ثم قام حيًّا إلى الأبد، وجعلنا “شركاءالطبيعة الإلهية”.ما علينا إذن سوى اتخاذ القرار في القيام بالخطوة الأولى نحوه، مهما كنا ضالين، وهو يتكفل بالباقي كله. فلقد أعد لنا وليمة الفرح، وذراعاه مفتوحتان ينتظرنا كي يحضننا ونتشارك معه خبز الحياة، فيكون لنا في ذاتنا “كل فرحه”.

أنت تعلم يا رب أننا نتركك ونذهب وراء أفكارهنا وخططنا، بل ونأخذ منك ما نسرفه لاحقًا بوقاحة على شهوات قلوبنا الشريرة، لكن رحمتك واسعة، ومحبتك للخاطىء لا يحدّها عقل. إقبل يا رب الراجعين إليك، أبناءك الخاطئين النادمين، غير المستحقين أن تدخل قلوبهم، بل يكفيهم كلمة واحدة منك فتبرأ نفوسهم. إن وقعوا يا رب وتعثّروا في ضُعف الجسد فلم يعطى لهم أن يروك، فإسمح لهم أن يلمسوا هُدب ردائك، فلا يسمّوا بعد هذا ضالّين بل شطّارًا. آمين.


جاكي جوزيف ضوميط

عيد الأم 2019

الخميس ٢١ أذار ٢٠١٩

بمناسبة عيد الأم، إحتفلت رعيّة رشدبّين بالذبيحة الإلهيّة وذلك عند الساعة السادسة من مساء يوم الخميس ٢١ أذار ٢٠١٩ في كنيسة مار سركيس وباخوس الرعائيّة في رشدبّين. ترأّس الخوري جبرائيل شعنين خادم الرعيّة القدّاس الإلهي وشارك فيه معظم أبناء الرعيّة. وبعد إنتهاء القدّاس، وبدعوة من أخوية الحبل بلا دنس، شارك الجميع في العشاء في صالون الرعيّ

أحد آية شفاء المنزوفة

قلما لمست أناملي معنى السعادة الحقيقية قلما انغمر قلبي بفرح جعله يطير . وكأن السعادة بات مفهومها بعيد عن مفهومنا نحن البشر أبسبب ذلك صرخ داود، بعد ما اشتهى جارته بتشابع وخان زوجها وأرسله للحرب ليموت، أرجع لقلبي طعم فرح الخلاص. دع قلب يستطعم بقرة الفرح من إصبعك، كفرحة وصولنا لأرض الميعاد،

في دروب الحياة نجد أناس يبحثون عن السعادة. ولا يعلمون أين تكمن وتوجد. فأخذوا يسعون لإسعاد أنفسهم بأشياء وقتية تنتهي فيشتاقون إلى السعادة مرة أخرى كاشتياق الأيل إلى جداول المياه هم هكذا في ظمئهم للسعادة.
أما كانت المنزوفة كباقي الناس؟ أما كانت تبحث عن السعادة ككل من حولها؟ محظوظة هي إذ وجدت معنى أشمل للسعادة، وهي السعادة عند قدمي يسوع.
عند قدمي يسوع يوجد رجاء ويوجد أمل، كل يأس يتحطم وكل مرض يذهب عند قدمي يسوع .عند قدمي يسوع يوجد سلام وراحة تدخل الي مفترق النفس فتتعزى ولا مكان للدموع. عند قدمي يسوع تكمن السعادة .فدعونا نتخيل نفسية المنزوفة عند قدمي يسوع فقد أصابها الياس لكنها وجدت أمل عند قدمي الشافي الوحيد. وجدت رجاء فذهبت اليه وطرحت مرضها ومشاكلها تحت قدمي من هو أكبر من كل مرض. كم ننفق من أوقاتنا وأموالنا باحثين عن دواءٍ لشفاءِ جراحاتنا وانكساراتنا النفسيّة الّتي ترمينا في نزيف العفن الدّاخليّ، والدموع القلبيّة المريرة، والألم الممزِّق لأحاسيسنا؟
قد لا نضَيِّع فرصةً توهمنا بالسعادة والحياة الهنيئة إلاّ ونركض وراءها كي نستقرّ، فتصطادنا هي بدل أن نصطادها، وتعمّق الأسى فينا بدل الطمأنينة والسّلام، فيبقى النزف مستمرًّا، مضعِفًا فينا الحبّ والفرح إلى أن نموت فيه، إلاّ إن جدّينا ولمسنا ثوب الحبيب. ربّما نُماثِل المرأة النازفةِ في لمس الهدب من الخلف خجلاً من مواجهة الحبيب، وخوفًا من أسئلةٍ ننتظر: “كنت أبحث عنك، أين كنت طوال السنين الماضية؟ لِما لم تأتني إلاّ متأخّرًّا؟….” ولكن أيًا من كلّ تلك الأسئلة لن يطرح علينا ولن يعاتب، مهما تأخّر وقت لمسنا لثوبه؛ جُلَّ ما يريده، أن نُقبِلَ إليه واثقين ننتزع منه الشفاء، فيُسَرّ ويفرح لفرحنا!
إنّه الحبيب، ويريدنا أن نكون ذا رجاءٍ وإيمان كي ينسكب كلّ الحبّ فينا، شافيًا النفس منّا قبل الجسد. هو الوحيد القادر أن يعيد لنا بهاء صورته وهو الوحيد الّذي يعيد لنا ذاتنا المفقودة في النزيف.

علمنا يا رب أن ننبسط تحت قدميك، لنلتقط أنفاس الرجاء. الرجاء بالسعادة الأبدية، الرجاء ببهجة القيامة، بالقيامة مع يسوع، آمين


جاكي جوزيف ضوميط

أحد آية شفاء الأبرص

يومًا ما ستنطفئُ شمعتي، يومًا ما سأبقى ترابًا في هذا العالمِ الفاني، يومًا ما لنْ تعود تراني العيون.
في هذا اليومِ أُريدُ أن أكونَ معكَ يا يسوع، أن أرى النفوسَ بعينيكَ. أسألُ نفسي واليأسُ يَغمرُ كياني، هل أنا مُستعد؟ هل روحي لابسة حلّةَ العرسِ استعدادًا لاستقبال العريس؟ هل قلبي نظيفٌ مجهّز لوليمة عرس الإله المحب؟
ها إني اليوم أبرص مستلقي بين أشواك الألم والعذاب، تمامًا كالأبرص الذي أكلته الأوجاع والمرض. ها إن روحي يتيمة وحيدة لا ملجئ لها ولا معين، منبوذة كما نُبذ الأبرص عن مجتمعه الذي حمل راية الإيمان ملوحًا بها عاليًا محاولةً لتخبئة الظلم والكراهية الساكنين في قلبه.
ها إن يديّ ممدوتتين أطلب المعونة والرأفة، إذ قلبي أكله عفن السكون.
ها إني أشبه نفسي بالأبرص الذي غمرته بعطف حنانك ورحمتك. ذلك الأبرص الذي كرهه العالم أجمع وأحببته أنت حبًّا يفوق كل حب. تعاليت عن قذاذة غمرته، لم تهمك وزر الخطايا الذي أحمله إياه مدّعي الإيمان بل غصت إلى عمق قلبه ومليته حبًّا لا متناهي. أشبه نفسي اليوم بذلك الأبرص وأنا أبعد عنه كل البعد.
هو عرفك بقلبه وعقله وكامل كيانه، أما أنا فأعرفك بأذنيّ وعينيّ اللتين لا ترفان إلا القشور.
هو غاص بسرّك وعرف عظمة حبك وفهم تدبيرك، أما أنا فأغوص في تراب هذا العالم، في مستنقع الخطايا والشعوات والنزوات
هو عرف أنّك الطريق والحق والحياة، أما أنا فأسلك طريق ابن ضال عيناي لا تبصر النور إلا في ظلمة الخطايا
هو دنا منك وسلّم نفسه والثقة تغمر حديثه كمن رأى الحقيقة التامة والمطلقة، أما أنا فأنظر إليك تطرق بابي و مع كل دقة أرجع خطوة إلى الوراء محاولةً الهروب من الخلاص
هو صام عن الشر والبغض والضغينة، صام عن الأرض ووقع في حب السماء، أما أنا فجسدي صائم أما روحي فعطشى لسعادة باتت غريبة عنها.
هو غلب بإيمانه شكوك أسرت قلبه وجسده، وآمن أنك الوحيد شافي القلوب وغافر الخطايا وكامل الرحمة، أما أنا فما زلت أسيرة تلك الشكوك، مكبلة بأصفاد ركيكة

أبانا الذي في السماوات، نسألك اليوم أن تدخلْنا في سرِّ صحراء مسيحِكَ، واجعل من صومنا مَسيرةَ حب ورحمة. وحيثُ تتراجعُ أناشيدَ الفرح والمجدِ، فلتصدحْ نفوسُنا بأعمالِ البرِّ والصَلاحْ. ولترافقْ أجسادُنا وحيدكَ في مراحِل آلامهِ. وطِّد إيماننا فيك فنشفى من أوجاع أكلت كياننا كما شُفي الأبرص بحبك، آمين


جاكي جوزيف ضوميط

عرس قانا الجليل

يبدأ زمن الصوم في الزهد، في تحدي ذاتنا البشرية في شهواتها، شهوة السلطة والمال، شهوة إمتلاك الآخر في روحه وفي جسده…

نحن مدعوون إذًا، لنلج إلى الصوم بفرحِ وسعادةِ العاشق التائق للقاء حبيبه في كلّ آنٍ وأوان ومكان فيكون صومنا أداةً تساعدنا على رؤية وجه المسيح في الفقير والمظلوم والمسجون والعريان…. فنستحقّ الحياة في ملكوت الله الّذي هو “بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس”، آمين.

عرس قانا الجليل ربّما ما زلنا عالقين في “أجران قانا الفارغة” نصبو إلى الإرتشاف من خمرةٍ مختلفة، خمرةٍ جديدة، نبحث عنها ولا نجدها، ننتظرها ولا تأتينا، لأنّنا لم نتعرّف بعد إلى معطيها، أو لا نقبلها من يد “الخدم”، فترانا نشرب من كلّ خمور الدنيا علّها تكون المُرْتَضى. ولكن سرعان ما ندرك أنّها تُسْكِر الجسد وتعطّل الرّوح، ويبقى القلب ينبض في حسرة إيجاد خمرةِ “قانا” المقدّسة كي يمتزج بمعطيها. تلك الخمرة تعني قبولي قيامة المسيح داخلي، هذه القيامة الّتي لا تجد معناها العميق إلاّ عندما يهبها يسوع بإعطاء ذاته فقط لمن يرتضي أن يكون على مثاله ويهب ذاته للحبّ الصّادق المقدّس

في عرس قانا الجليل، أنقذت يا ربّ الحبّ من الخجل وأكملت بالحبّ ما أنقصته شهوات النّاس وإسفافهم وتراخيهم وإهمالهم.
هبنا اليوم، في ذكرى هذا الحبّ الكبير أن نشدّ الرّحال في مسيرة الصوم فنُحوّل بحضورك الحقد إلى غفران والتراخي إلى هِمم والتمادي إلى صفحٍ، يقودنا بالموت فيكَ إلى العبور بالقيامة إلى ملكوتك الأبديّ، حيث نسبّحك مع أبيكَ وروحكَ القدّوس إلى الأبد، آمين.


جاكي جوزيف ضوميط