رعيّة رشدبّين

حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء

حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء، تُحتَبس غصّة الحرمان في النفس وتأبى الدمعة الكريمة أن تتدحرج من مقلتيّ من يتمنّى أن يأكل ممّا يُرمى في براميل القمامةّ. لربّما يُقال: “ما لنا وللغني، هذا ماله وهو حرّ التصرّف به” أو “ليس مضطرًا لمساعدة الفقير، فلِما لا يعمل ليكسب رزقه؟”، هذا من الناحية المادّية.
أمّا من النواحي الأخرى، النفسيّة والروحيّة، فهناك الفقر الأكبر والحاجة الملحّة. المسألة إذًا لا تتعلّق فقط بلقمة الفقير، بل بالفقير إلى الحبّ، إلى الإهتمام، إلى الإحساس بأنّه مرافَقٌ وبأنّه ليس وحده في محنته، وإلى ما هنالك من حالات فقرٍ مُدقَع حتّى داخل القصور والكنائس.

غنيٌّ فقير
على موائد الغنيّ (الفقير روحيًّا)، تتلاطم الأطباق والأطايب بعضها ببعض لتسحره، هو الّذي يعاني من فراغٍ ما في داخله، فيقيم الولائم للتعويض والشعور بقدرٍ أكبر من الأهميّةِ وكأنّ هذه الأخيرة تتغذّى من طعام الأرض، فيغرق فيها إلى درجة أنّه لا يعود يرى القابع على باب داره يستجدي اللقمة، لا بل ينسى الله وينسى شكره على كلّ ما وهبه من خير. وفي خزائنه يتصارع الحرير مع الأرجوان والفضّة مع الماس، أمّا هو فيطرب لشجارها وينام على أنينها الّذي يحسبه هدهدة الجارية لإبن الملك كي يغفو. إنشغالاتٍ ومخطّطات سمّرته في قصر الولائم والثياب الفاخرة، في مساحةٍ أخذ الوقت فيها قيلولة لتتحوّل حياته إلى رتابة يومية مطلية باللؤلؤ الزائف، تكرّر نفسها مع كلّ إطلالة شمس.
وعلى باب القصر، يئنّ جوع لعازر الغني فيسكته بفتات الفقير وهو “يشتهي أن يشبع من فضلات مائدته”، متطلّعًا إليه بعينين تحكيان قصّته بالنظرات لعلّه يتذكّر أنه هو أيضًا إبنٌ لله وأنّ كلاهما على صورة الخالق ومثاله، فيرحم فقره.
لكنّ المسألة لم يفهمها، ولم يدرك أنها تقول “حيث يكون قلب الإنسان يكون كنزه”، لا بل أبعد من ذلك بكثير، لم يكتشف أنّها تجسّد المقدرة على الخروج من سجنه المنسوج بظروفه الماديّة والمعيشيّة حتّى ولو كانت أسلاكها من ذهب. لم يستطع أن يعرف بأنّها دعوة يوميّة إلى الحريّة واتّخاذ الموقف الواضح والثابت الّذي ينعش فيه روح البنوّة لله وينمي الرّجاء بلقاء الحبيب مع كلّ من كانوا حوله أو سبقوه إليه، دون إستثناء.

عندما تقرع أجراس الحزن على الأرض، هناك باب فرحٍ يُفتح في السماء. عندما ترفع بعض الأيادي الفقيرة صندوقًا بالكاد “يكمش” نفسه كي يحمل جسد لِعازر كلّ عصر، هناك أجواقٌ من الملائكة تأتي لتستقبل من كان أمينًا على حبّ الله وكلمته خلال مسيرته الأرضية، فيدخله إلى فرحِ الحبيب الأبديّ. وعندما تسير المواكب السّود وراء نعشٍ مذهّب وتطلق “النوبة” صراخها على فقدان الغنيّ – البخيل، صاحب الترف الأناني، هناك صراخٌ أشدّ ألمًا من الموت وصرير أسنانٍ لا يسمعه إلاّ من كان في الظلمة البرّانيّة، في الهوّة، يخرج من أعماقِ هذا الأخير الّذي لم يكترث لوجود الله في حياته وحياة من حوله.

هل يا ترى، لو تعرّف هذا الفقير بالروح على حقيقة الحبّ بين الآب والإبن في بوتقة الروح، وكيف يفرغ الآب ذاته في الإبن، والإبن بدوره يعيد ذاته إلى الآب بفعل شكرٍ في رقصة الحبّ الرائع المتكامل المستدام، ألن يشعر بصغره لِحياته اللامنظورة الّتي يحاول وضعها أحيانًا تحت خابية فقير أو محتاج، مُحاوِلةً سندها. ألن يفهم بالحري، أنّ فعل العطاء ما هو إلاّ إفراغ ذاتي بالملئ وبكلّ الحبّ كي أمتلئ بدوره بفرحٍ أكبر وحبٍّ أسمى.
ألن يبدأ مسيرته، بتوازنٍ دقيق على جسر العبور من الأنا إلى الآخر، من جيبه الغنيّ إلى قلبه الفقير، ومن بيت الترف إلى حضن الفقير. لو تعرفنا بدورنا إلى هذا الحب اللامتناهي، عندها، لن يبقى مثل لِعازر على شفاهنا بل سيدخل إلى حيّز التطبيق من خلال معناه “الله يساعد” من خلالي، من خلالك، من خلالنا جميعًا.
كلّ ما أتمنّاه اليوم هو الإيمان بالله الحاضر فيَّ وفيك الّذي به أتخطّى ذاتي وخوفي وفقري أيًّا كان نوعه، وأنسكب حبًّا في الآخر.

اليوم ونحن ما زلنا أحياء، دعونا نخرج من سجن ذاتيّتنا وندخل عالم الفقراء قبل أن ننتهي في القبر، فنجد أنفسنا مجرّدين من كلّ ما كنّا نتغنّى به، وقد فقدنا العزّ والجاه والشبع، وأصدقاء المناسبات والولائم والمصالح؛ ويكون قد فات الأوان على إكتشاف قيمة الحبّ والرحمة، وتكون الأرض قد تشبّثت بنا وإنتزعت منّا فرصة التنعم بلقيا العريس الّذي ينتظر. فلنعطِ إذًا ما للأرض للأرض وما للسماء للسماء.


جاكي جوزيف ضوميط