رعيّة رشدبّين

مثل الإبن الضال

ضرب يسوع مثلا (لو ١٥) عن إبنٍ ضالٍ، سعى في طريقه، متّبعًا أفكاره في الحياة، لا يُملِ عليه أحد ماذا يفعل، حرًّا طليقًا من أي قيد. طلب الإبن من أبيه أن يأخذ نصيبه من الميراث، بكّل وقاحة يقدّم هكذا طلب لأبيه، رافضًا نعيم الأب ساعيًا وراء حرية مجهولة. لكن ردّ فعل الأب كان مثيرًا للعجب، لقد أعطى إبنه مُبتغاه! لماذا يا رب تركته يذهب في طريقه؟ لماذا سمعت لكلامه؟ أنت تعلم جيدًا الى أين سيذهب وفي أي طريق سيسير، فلماذا لم تمنعه؟! تركته وإحترمت قراره، وكأنك يا رب تريده أن يجرّب البعد عنك.

ذهب الإبن وتُرك لحريّته واختياره مع أن أباه يعلم كل شيء ويعتصر قلبه حزنًا عليه. سار في طريق الحرّية التي أرادها فتبع شرّ قلبه، لكن الحياة كانت صعبة، والخطيئة كانت كبيرة، فدار الزمان على من كان سيدًا فصار عبدًا “يشتهي أن يملأ بطنه من الخُرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطيه أحد”. قرر العودة، ولكن أي عودة؟ إذا عاد سيضحك عليه أبوه ويعيّره بأنه لم يسمع لنصائحه، سيصبح منبوذًا، هذا إن قبله أحد أو قبل الكلام معه، فمن سيقبل الضالّ الذي “بدد ماله في عيشة إسراف” متّبعا شهواته؟ لكن شتّان ما بين تفكيره وتفكير أبيه. كان الأب ينتظره كل يوم، لأن حنانه يفوق غباء إبنه، فرآه “وكان لم يزل بعيدًا، فتحرّكت أحشاءه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله طويلاً”. ما أروع حنانك يا رب! كنت تنتظره كل يوم، مع أنه تركك، وكان من الممكن ألا يعود أبدًا. لكن قلبك أكبر من خطيئته، وحبّك له أكبر من معصيته لك، وإحترامك لقراره أعظم من إحتقاره لنعمتك، حتى لو علمت أنه ذاهب الى أقذر الأماكن.

بعد طول انتظار تم اللقاء بين الأب وابنه الضال، العائد إلى أحضان أبيه الذي ولده من رحم الحب. لقاء كلله نور السماء بالفرح والمسامحة أمام توبة هذا الولد الكبيرة، بسكب قلبه بصدق أمام أبيه. لقد وضع ذاته بين يديه كما لم يفعل من قبل، متمنيا أن يولد من جديد، أن يولد من فوق، أن يعمد، بشوقه إلى السلام الداخلي والكفاية والفرح، بحب الذي لم يبخل به عليه ولو لمرة. لقد وصل إلى شاطىء الخلاص بعدما كاد أن يموت غرقًا في بحور الدنيا، بعيدًا عن الحضن الأبوي. لقد آمن بإمكانية الحياة من جديد، لكنه لم يكن بعد يدري عظمة غفران أبيه له وما ينتظره عند عودته. لم يستطع أن يفكر كأب رحوم، بل رضي بأقل ما هو ممكن من متطلباتت الحياة: وزر الخطيئة كان أقوى من فهمه لحب أبيه الكبير له.

أما الأب فلم ييأس ولو للحظة وإلا لما كان يراقب الأفق كل يوم منتظرًا عودة ابنه. ويوم عاد، سكتت لغة العتاب والمحاسبة. فالفرحة كانت عظيمة، وتجلت بجملة أوامر تختصر مدى لهفة انتظار هذه اللحظة: “أسرعوا، هاتوا أفخر الثياب، ألبسوه، ضعوا الخاتم في إصبعه، وحذاء في رجليه، قدموا العجل المسمن، فنأكل، ونفرح.”

لكن الأهم من بعد الإبن الضال هو جهل الإبن الأكبر. مشكلة الأخ الأكبر هي بصيرته المحدودة. لقد رأى في رحمة والده نحو أخيه العائد، ظلما وبهتانًا. لم يدرك أن يوم “قسم لهما أملاكه”، قد حصل هو أيضًا على نصيبه من الميراث، وكان بإمكانه أن يفرح ويتصرف بحصته كما يشاء هو أيضًا، بل ذهب بعماه إلى أبعد من ذلك ربما: لقد خاف على حصته، وارتبك لفكرة أن يغير الوالد وصيته، فيقسم من جديد حصة الأكبر مع أخيه “المبذر”… ثم ما لبثت أن تكشفت حقيقة مشاعره نحو أبيه: ” خدمتك ولم أعص لك أمرًا”، وكأنه كان عبدًا مقيدًا بالأوامر، يخدم طمعًا في الحصول على تقاعد في نهاية خدمته (الميراث) . لقد وضع الأبوة والبنوة خارج منطق العائلة الواحدة، رغم تواجده معه تحت سقف واحد. لم ينظر إلى الشركة في الحب والعطاء، ولا المشاركة في” الخبز الواحد”: لكل حصته وشؤونه وحياته.

ماذا بعد؟
إن الآب محترم لحريتنا، التي خلقنا عليها، إلى أقصى الحدود. وإلا لكنا “تبعيين” ملتصقين به، لكن دون أن نختاره ونحبه كأبناء خليقين به، قادرين على العودة إليه والتمسك به بصدق إن ضللنا. ولاكتشفنا أيضًا مدى تواضعه اللامحدود تجاهنا، وفرحه الغامر في كل مرة نتوب إليه. لاكتشفنا لهفته للعودة معه إلى بيته كي نتقاسم وإياه كل ما يملكه حتى ولو آلمناه بتعنتنا وسوء تصرفنا.
لاكتشفنا أن مأساة خطيئتنا تكمن في جرح قلبه الوالدي الذي سرعان ما يغفر لنا منتصرًا على ألمه باتقاد عطفه وحنانه في عمق أعماقه. صابر هو في انتظاره، لا يتعب ولا يمل هذا الإله – الأب. إنه يحيا فينا ويشعرنا بكثرة محبته دون أن نراه، إنما نعرفه بأبنه الوحيد يسوع المسيح الذي أتانا من حشاه.

ماذا يبقى لنا؟
لنسأل أنفسنا الآن كيف يمكننا عيش هذا الإنجيل. يقول القدّيس بولس: “من كان في المسيح، فهو خليقة جديدة”. لقد صالحنا الآب بابنه يسوع، وألبسنا الحلة والخاتم والحذاء يوم أخذ علتنا وعاهاتنا وعلقها على الصليب ثم قام حيًّا إلى الأبد، وجعلنا “شركاءالطبيعة الإلهية”.ما علينا إذن سوى اتخاذ القرار في القيام بالخطوة الأولى نحوه، مهما كنا ضالين، وهو يتكفل بالباقي كله. فلقد أعد لنا وليمة الفرح، وذراعاه مفتوحتان ينتظرنا كي يحضننا ونتشارك معه خبز الحياة، فيكون لنا في ذاتنا “كل فرحه”.

أنت تعلم يا رب أننا نتركك ونذهب وراء أفكارهنا وخططنا، بل ونأخذ منك ما نسرفه لاحقًا بوقاحة على شهوات قلوبنا الشريرة، لكن رحمتك واسعة، ومحبتك للخاطىء لا يحدّها عقل. إقبل يا رب الراجعين إليك، أبناءك الخاطئين النادمين، غير المستحقين أن تدخل قلوبهم، بل يكفيهم كلمة واحدة منك فتبرأ نفوسهم. إن وقعوا يا رب وتعثّروا في ضُعف الجسد فلم يعطى لهم أن يروك، فإسمح لهم أن يلمسوا هُدب ردائك، فلا يسمّوا بعد هذا ضالّين بل شطّارًا. آمين.


جاكي جوزيف ضوميط