هي الوثنيّة، قد تنبّهت إلى كينونته، فآمنت به. لقد آمنت أنّه البداية والنهاية، وأنّه لا يمكن دخول باب الخلاص إلاّ به، فأتته راجيّةً ثابتةً في إيمانها. لم تقف عند حدود ما نعتقده إهانةً لشخصها، عندما إجابها يسوع بالرفض، لأنّها أتت واثقة من هويّة هذا ال”يسوع”، الّذي طالما سمعت عنه وعن طيبته ورحمته، هي التي كانت بعيدة كل البعد عن تعاليمه والتي لم تلمس بطرف إصبعها جرحه والتي لم تمتّع نظرها وقلبها بأحد أعاجيبه. لم تتعلّق بعاطفتها، وبما ندّعيه أحيانًا “كرامة”، بل ذهبت إلى أعمق، إلى حقيقة رأتها في عينيه، حقيقة الحبّ الّذي لا يعرف التّفرقة بين البشر. إيمانها سمح لها بالإصرار على طلبها، بطريقة ذكيّة وطريفة رغم الدموع والألم، وكأنّها تلاقيه على نفس الوَترِ الّذي أراد أن يغنّيه كي يسمعه الجمع كلّه، مُتخَطّيَةً “الإساءة”، واضعةً ثقتها بهَويّتِهِ الحقيقيّة.
إيمانها به أتى بملء اختيارها، لا بعاطفتها أو بإملاءٍ ما، ولا بمنطقها البشريّ، أتت إليه واثقة الخطى، مسلّمةً له وضع ابنتها الميؤوس منه. لم تطلب منه أن يشفيها، أو أن يُخرج من ظلمة قلبها الشياطين، لم تطلب منه شيء بل أتت بإمان عظيم بيسوع، سلّمته ابنتها كما سلّم أب الإيمان ابراهيم فتاه على الجبل وصمتت، صمتًشا حمل معه صرخة صاخبة تردد ما أرادت فعلاً قوله: لتكن مشيئتك. فكانت المكافأةُ شفاءً، والإعلان أمام أهله وآلِهِ، بأنّها صاحبة الإيمان العظيم: من وثنيّتها، قلبت الطاولة على أصنامها وآمنت بمعطي الحياة والخلاص.
تلك الوثنية آمنت أنّ لا خلاص لها إلاّ بالمسيح. وثنية لم تُوَثِّن إيمانها، ولم تحجّمه في آيةٍ أو أعجوبةٍ، ولم تحدّه في طلبات تشبع رغباتها الشخصية. كان إيمانها مَبْنيًّا على الإلتصاق بالمسيح، على أن يكون لها فكر المسيح وسلوك المسيح. تلك الكنعانيّة قد التصقت بيسوع واضعةً كلّ ذاتها، وكلّ حياتها بين يديه “يا ربّ”، “يا سيّد”، وكأنّها تقول له:” أنتَ هو سيّد حياتي، فهي لم تعد ملكًا لي، بل لك، وأنت الّذي عليه أن يملك عليها… فتصرَّف”.
لقد أحبّت شخصًا بكلّ جوارحها، فلم تستطع أن ترى فيه إلاّ ما أمْلَتهُ عليها قناعتها، مؤمنةً أنّه، هو أيضّا صادق في حبّه ورحوم بامتياز. هو ذاك الّذي “لا يكسر قصبةٍ مرضوضةً ولا يطفىء فتيلاً مدخّنًا”، ولا يخذل كلّ من أتى إليه بتصميم ٍ واثق، وبساطةٍ ثابتة.
أوليس هذا هو المطلوب منّا، نحن الّذين اعتمدنا وخُتمنا بالمسيح؟ ألسنا واثقين أنّه لا ينسى واحدًا على قارعة الطريق، بل “يدخله معه إلى ردهة العرس”؟ فلندعه يعمل فينا، ولنتركه يكون صانع سلامنا الداخليّ وشافينا؛ فهو وحده يعرف طينتنا ودواخلنا. فلنؤمن أنّ السّلام والشفاء الروحيّ هما عطيتان مجّانيّتان اُفيضَتا عن رحمة الله بواسطة موت وقيامة يسوع المسيح. أوليس المطلوب منّا أن نكون كالكنعنانيّة، نعلن إيماننا بأنّه سيّدُ حياتنا، نقبل عطيّة ذاته لنا بالكامل، مهما واجهنا من صعوبات، ورفضٍ وتهميشٍ أحيانًا… حتّى إذا ما قبلنا وفعلنا، لا يعد باستطاعتنا أن نبقى كما كنّا، لأنّ الله يكون قد كشف لنا ذات الحبّ الّذي فيه، وأحلّ فينا سلامه، ووهبنا شفاء النفس ِ، جاعلاً منّا خليقته الجديدة.
فطوبى لمن يقبل ويثبت، لأنّه يكون قد حمل يسوع الحبّ، يسوع السلام، يسوع الخلاص، للعالم أجمع.