رعيّة رشدبّين

Month: August 2018

!ألله محبّة

قصّة ما زالت تشعرنا حتّى اليوم بطابعها الغريب، الخارج عن نطاق اللياقات عند الأشخاص “المحترمين”.
نشتمّ فيها رائحة الجسد وطعم الشهوة في عطر تلك المرأة وشعرها. دموعها وسلوكها العاطفيّ يأخذ العقل والتصوّر في رحلةٍ إلى مخدعها، حيث عشعشت فيه الخطيئة لسنوات.
أمّا عمق هذه القصّة، فهي محضُ روحيّة، وثمرتها توبة “جنونيّة”!
إنّها تجعلنا نرى فيها نوعًا من شعائر يؤدّيها أيّ خاطئ يتوب حقًّا عن آثامه: لقد سجدت تبكي معاصيها بصمتٍ، تعترف -معانةً بدموعها- توبتها العميقة. أسدلت شعرها، مفخرة ما كانت عليه، وبدأت تلفّ به قدميّ يسوعَ خاشعةً، متعبّدةً… فيكمل يسوع بتهيئة ذبيحته الآتية، واعظًا، بمثل المديونين، الجماعة المذهولة أمام ما يحدث، ويفتح أعينهم على محبّة الاب في فيض نعمه الكثيرة في المسامحة والمغفرة. وأخيرًا يشجّع تلك الآتية بكلّ ثقةٍ وأيمان، دون أن يمسّ كرامتها بحرفٍ أو بكلمة، بل يتركها تذهب بسلام، مُصالحةً مع ذاتها ومع يسوع.سمعان الفرّيسيّ لم يرَ إلاّ فعلاً ساقطًا قامت به “الخاطئة”. أمّا يسوع، فلم ينظر إلاّ إلى قلبها المنسحق الصادق. لم يشعرها بالخجل، ولم يخلط أوراق روزنامتها الحاليّة بماضيها، بل كان ذاك الطبيب اللطيف الّذي انتزع ورمها الخبيث وشفاها.
كذلك أراد شفاء سمعان الفرّيسيّ، فدخل إلى أعماقه كي ينتزع منه الجواب، ونجح. فأدرك هذا الأخير خطيئته، ولم يكن يعلم أنّه بجوابه هذا، قد أدان نفسه بنفسه، ففهم، بعد الصدمة، أنّ السؤال الأصحّ ليس “من الّذي خطئ أكثر؟” بل “من الّذي أحبّ أكثر؟”، بمعنى أوضح: من الّذي تعرّف حقًا إلى عظمة غفران ومحبّة الله في حياته؟لقد رغب يسوع من سمعان، أن يدرك عدم جدوى التظاهر بالبرارة، وتعظيم خطيئة تلك المرأة التائبة. أراده أن يدرك عدم جدوى التفاخر بما ناله من متطلّبات الحياة في النِعم الأرضية وحتّى الروحيّة منها، أمام تلك الّتي سلكت الدرب الوعرة والمعوجّة، لأسبابٍ نجهلها… آفة التفاخر تلك، تلغي تبكيت الضمير عند اقتراف الخطأ، فلا تعد الخطيئة تسبب مشكلة أو عبئاً على المتكبّر. ففرّيسيّين كنّا أم خطأة، مرسلين أم متنسّكين، ما من سلامٍ داخليّ دون رحمة الآب وصحوة الضمير.
اليوم أصبحت الخطيئة عظيمة إلى حدّ التفلّت والفحشاء، ولا من يكترث!

فهل تحرّر العالم من الضمير، ومن مخافة الله، فأصبح يعدّ الخطيئة مجرّد وهمٍ، لا أساس له في الحياة المعاصرة؟ هل توافقني أنّ نتيجة ذلك، يعني نكران النّور الّذي، وحده يستطيع أن يكشف ويشفي مرضنا الروحيّ؟
لنثق أنّه في هذه الفسحة يلتقي بؤسنا وخجلنا مع رحمة الآب. إنّها فسحة لقاء الحبيب، وتذوّق الحبّ الإلهيّ الحميم. هناك تُعاد إلينا فواتير الدّين كلّها، ممهورةً بخاتم يسوع :” لقد سُدِّد بالكامل…يسوع”.
أيها الحبيب، دلّني طريق التواضع الحقّ، طريق القلب، واحرق بنار حبّك، غروري، وكبريائي، وتمحوري حول ذاتي. أشعل قلبي بحبّك، فأنشد القرب منك، والرّاحة في حضنك ليل نهار، آمين.

جاكي جوزيف ضوميط

توبة المرأة الخاطئة

الحبّ يتكلّم
في طفولتي ما كنت أتردد مرةً في مصالحة والدي، عند إرتكابي لخطأ ما، ولو بحركة بريئة لا تخلو من حاجتي إليه وإلى حبّه الكبير لي. كنت على يقين أنه لا ينتظر قطعة “الشوكولاه” التي كم من المرات كنت أدسُّها بخفّة في جيبه، ولكن فعلي ذاك ما كان إلا ليعبِّر عن الإعتراف بخطئي والتأكيد على كثرة محبتي له.
يا للطفولة الصّادقة !
كم أرى بها تلك المرأة الخاطئة على أقدام يسوع، ولو أن ” الوالد ” هنا هو شخص لم ولن تنْجِبه أرض ولم ولن يطأها أحد مثله مدى الأزمنة. أما المرأة، فهي كتلة أحاسيس شفافة، صادقة تنشد الشفاء، إلى درجةٍ أنّها لم تخجل ولم تأبه ولم تُقِم لمشاعرها وزنًا أمام ردّة فعل الآخرين تجاهها، فكان لها ما أرادت .
ما الذي كان سيد الموقف ؟
أهو الحبّ الذي أدّى إلى التوبة ؟ أم التوبة هي التي أدّت إلى الحب ؟
الجواب يكمن في ما قاله يسوع :” يُغفر لها كثيرا لأنّها أحبّت كثيراً “. بعبارة أخرى ، لقد كانت واثقة من أن مغفرتها مؤكّدة، هي التي سمعت وعاينت ما صنعه يسوع، وآمنت بقدرته على مغفرة الخطايا، وعثرت على الحبّ المفقود ، الّذي لم تجده لا في أي مكانٍ ولا مع أيٍّ كان.
لم تطلب الغفران بالكلمات بل بكت: بكت على السنوات الّتي أمضتها في مهبّ ريحٍ، وتطايرت نفسها مع كلِّ هوًى. يا لها من إمرأة واثقة في الذي وجدته، فأحبّت، صمّمت، وآمنت بأن يسوع وحده قادرٌ بأن يعيد لها سلام القلب المُهاجر.
لا نخافنَّ إذًا من خطيئتنا بل لنواجهها بالحبّ الكبير للحبيب يسوع، لأنّه، مهما يكن من أمر، فهو يؤكّد لنا من خلال “المرأة الخاطئة” بأن العالم كلّه سيخلص ما دام هناك حبّ كبير يحرك حياة الإنسان من الدّاخل ويصبح مرئيًّا بالثمارالطيّبة لأفعالنا: إنه الحبّ الأقوى، حبّ الآب الّذي يتخطّى كلّ ضعفنا وأخطائنا.
إنه غفران الحبيب للمحبوب دون إذلاله أو الإشارة إليه بإصبع الإتهام.
إنه الحبّ الّذي يخرسن ألسنتنا ويكمّ أفواهنا عن تعداد المعاصي وترداد العبارات الروتينيّة، وادِعًا النفس تسكب ذاتها بما فيها، فتفيضُ عطرَ توبة ودموع ندامة على أقدام الحبيب، ويلتقي الغفران بالحبّ، فتولد الحياة ثمرةً مقدّسة.
ربي وإلهي … حين أنظر إلى الصليب هل أشعر وأؤمن بمغفرتك لخطاياي؟ هل أشعر وأؤمن بمحبتك لي؟ هل أغار على قُدْسيَّة أسمك كما غِرت أنت علينا وإفتديتنا بإبنك الوحيد؟ سأكون صريحةً معك لأن أفعالي تقول بأنني لا أشعر بهذه المحبة، لأني لو شعرت بها وملأ الإيمان كياني لبادلتك بمثل هذه المحبة ليس فقط بالإعتراف بخطيئتي والندامة عليها وتغيير أسلوب حياتي ولكن أيضًا لغفرتُ للآخرين إساءتهم لي وبالتالي لأظهرتُ لهم ألوهيتك “الله محبة”، فالمحبة تقابلها محبة. لو بادلتك المحبة لأصبحت قدّيسة بتصرفاتي لأنك قدّوس، لأصبحتُ مرآة لبرّك كما فعل الرب يسوع.
ربي وإلهي … هبْ قلبي محبةً صادقةً نابعة مِن الأعماق وليس مِن الشفاه فأصبح إبنة حقيقية لك، ولك الشكر على الدوام. آمين.
جاكي جوزيف ضوميط

قداس عيد مار ضوميط

الإثنين ٦ آب ٢٠١٨
بمناسبة عيد مار ضوميط، إحتفلت رعية رشدبين بالذبيحة الإلهية حيث ترأّس خادم الرعية الخوري جبرائيل شعنين قدّاس العيد وعاونه الخوري إدغار الطنسي، وذلك عند تمام الساعة السادسة والنصف من مساء يوم الإثنين ٦ آب ٢٠١٨ في كنيسة مار ضوميط رشدبين، وشارك فيه معظم أبناء الرعية وعدد كبير من أبناء الرعايا المجاورة. وبعد نهاية القداس، رقص الجميع على أنغام الطبل والمزمار

العشاء السنوي التاسع لأخوية الحبل بلا دنس رشدبين

السبت ٤ آب ٢٠١٨
أحيت أخوية الحبل بلا دنس رشدبين عشاءها السنوي التاسع وذلك عند تمام الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم السبت ٤ آب ٢٠١٨ في ملعب بلدية رشدبين (ملعب مدرسة رشدبين الرسمية سابقًا) حيث شارك فيه معظم أبناء الرعية.

إيمان المرأة الكنعانية

إنّها كنعانيّة! فماذا لديها لتقوله لي؟… إنّها وثنيّة وآلهتها أصنام، أمّا نحن، فإنّنا أبناء لّله منذ اعتمادنا بالماء والروح! فماذا أتعلّم منها؟… هي حديثة التعرّف على المسيح وتكلّمه للمرّة الأولى،أمّا لغالبيتنا، فطريق يسوع طريقنا، مذ فتِحَت أعيننا على الدنيا!؟ فما الجديد إذًا عند هذه المرأة كي تعطينا إيّاه؟ قليلاً ما ننتبه إلى إيمانها بشموليّة محبّة الآب للإنسانِ كائنًا من يكن، وأيًا كانت انتماءاته الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة… هو الضابط الكّلّ، أتى للكلّ، وبكلّيته أعطانا ذاته لخلاصنا.
هي الوثنيّة، قد تنبّهت إلى كينونته، فآمنت به. لقد آمنت أنّه البداية والنهاية، وأنّه لا يمكن دخول باب الخلاص إلاّ به، فأتته راجيّةً ثابتةً في إيمانها. لم تقف عند حدود ما نعتقده إهانةً لشخصها، عندما إجابها يسوع بالرفض، لأنّها أتت واثقة من هويّة هذا ال”يسوع”، الّذي طالما سمعت عنه وعن طيبته ورحمته، هي التي كانت بعيدة كل البعد عن تعاليمه والتي لم تلمس بطرف إصبعها جرحه والتي لم تمتّع نظرها وقلبها بأحد أعاجيبه. لم تتعلّق بعاطفتها، وبما ندّعيه أحيانًا “كرامة”، بل ذهبت إلى أعمق، إلى حقيقة رأتها في عينيه، حقيقة الحبّ الّذي لا يعرف التّفرقة بين البشر. إيمانها سمح لها بالإصرار على طلبها، بطريقة ذكيّة وطريفة رغم الدموع والألم، وكأنّها تلاقيه على نفس الوَترِ الّذي أراد أن يغنّيه كي يسمعه الجمع كلّه، مُتخَطّيَةً “الإساءة”، واضعةً ثقتها بهَويّتِهِ الحقيقيّة.
إيمانها به أتى بملء اختيارها، لا بعاطفتها أو بإملاءٍ ما، ولا بمنطقها البشريّ، أتت إليه واثقة الخطى، مسلّمةً له وضع ابنتها الميؤوس منه. لم تطلب منه أن يشفيها، أو أن يُخرج من ظلمة قلبها الشياطين، لم تطلب منه شيء بل أتت بإمان عظيم بيسوع، سلّمته ابنتها كما سلّم أب الإيمان ابراهيم فتاه على الجبل وصمتت، صمتًشا حمل معه صرخة صاخبة تردد ما أرادت فعلاً قوله: لتكن مشيئتك. فكانت المكافأةُ شفاءً، والإعلان أمام أهله وآلِهِ، بأنّها صاحبة الإيمان العظيم: من وثنيّتها، قلبت الطاولة على أصنامها وآمنت بمعطي الحياة والخلاص.
تلك الوثنية آمنت أنّ لا خلاص لها إلاّ بالمسيح. وثنية لم تُوَثِّن إيمانها، ولم تحجّمه في آيةٍ أو أعجوبةٍ، ولم تحدّه في طلبات تشبع رغباتها الشخصية. كان إيمانها مَبْنيًّا على الإلتصاق بالمسيح، على أن يكون لها فكر المسيح وسلوك المسيح. تلك الكنعانيّة قد التصقت بيسوع واضعةً كلّ ذاتها، وكلّ حياتها بين يديه “يا ربّ”، “يا سيّد”، وكأنّها تقول له:” أنتَ هو سيّد حياتي، فهي لم تعد ملكًا لي، بل لك، وأنت الّذي عليه أن يملك عليها… فتصرَّف”.
لقد أحبّت شخصًا بكلّ جوارحها، فلم تستطع أن ترى فيه إلاّ ما أمْلَتهُ عليها قناعتها، مؤمنةً أنّه، هو أيضّا صادق في حبّه ورحوم بامتياز. هو ذاك الّذي “لا يكسر قصبةٍ مرضوضةً ولا يطفىء فتيلاً مدخّنًا”، ولا يخذل كلّ من أتى إليه بتصميم ٍ واثق، وبساطةٍ ثابتة.
أوليس هذا هو المطلوب منّا، نحن الّذين اعتمدنا وخُتمنا بالمسيح؟ ألسنا واثقين أنّه لا ينسى واحدًا على قارعة الطريق، بل “يدخله معه إلى ردهة العرس”؟ فلندعه يعمل فينا، ولنتركه يكون صانع سلامنا الداخليّ وشافينا؛ فهو وحده يعرف طينتنا ودواخلنا. فلنؤمن أنّ السّلام والشفاء الروحيّ هما عطيتان مجّانيّتان اُفيضَتا عن رحمة الله بواسطة موت وقيامة يسوع المسيح. أوليس المطلوب منّا أن نكون كالكنعنانيّة، نعلن إيماننا بأنّه سيّدُ حياتنا، نقبل عطيّة ذاته لنا بالكامل، مهما واجهنا من صعوبات، ورفضٍ وتهميشٍ أحيانًا… حتّى إذا ما قبلنا وفعلنا، لا يعد باستطاعتنا أن نبقى كما كنّا، لأنّ الله يكون قد كشف لنا ذات الحبّ الّذي فيه، وأحلّ فينا سلامه، ووهبنا شفاء النفس ِ، جاعلاً منّا خليقته الجديدة.
فطوبى لمن يقبل ويثبت، لأنّه يكون قد حمل يسوع الحبّ، يسوع السلام، يسوع الخلاص، للعالم أجمع.
جاكي جوزيف ضوميط

توبة زكا العشار

أن يتوب رئيس العشّارين زكّا، القابِض على حقوق النّاس، المستقوي على الضعفاء والعميل عند الرومان، ترك بصمةً كبيرة عند كلّ من عاين وسمع من قريبٍ أو بعيد، في مهمّة يسوع الخلاصيّة على الأرض.
إنسان يعاني من عقدة نقصِ قصر القامة ويتألّم من دونيّته، ذهب مدفوعًا للتعويض بشتّى الوسائل، فراح يرفش الأموال المُستحَقّة والغير مستحقّة من النّاس، ظنًّا منه أنّه بذلك سيكسب مكانةً مرموقة ومحترمة في مكانٍ ما عند الرومان. لم يكن يؤمن بكينونته المخلوقة على صورة الله، ولم يكن يستشعر الثقة بالذات إلاّ على حساب تصغير الآخر وغبن حقوقه، فما كان يقطف في كلّ مرّةٍ إلاّ الوحدة ويزداد رذلاً وتهميشًا. الحلّ؟… كان بحاجةٍ إلى من يكسر تلك الحلقة المفرغة في حياته، كان بحاجةٍ إلى التقاء من يحبّه ويعرف كيف يُخْرِج الذّهب من منجم قلبه: كان بحاجةٍ إلى يسوع. مارًّا بتلك النّاحية، هو الوحيد الّذي، على عكس كلّ سكّان المدينة الّذين كانوا يزدرونه بغضّ الطرف وزمّ الشّفاه عند مروره، رفع نظره صوب زكّا. ثمّ ناداه باسمه، ولأوّل مرّةٍ يشعر زكّا بأنّ له كرامة الإنسان. نظرة يسوع إليه ردّت له الجوهرة الثمينة المفقودة الّتي لطالما بحث عنها في كل ما ارتكب من حماقاتٍ وأخطاء دون أن يجدها. لقد بدأ يتلمّس صورة سماء وجه يسوع تنجلي داخله : لقد وُلِد من جديد، وأشعّ وجهه فرحًا.ألسنا غالبًا زكّا في “قِصره”؟ في كلّ ما يتعلّق بإيماننا، بأمانتنا، بإرادتنا الخاضعة، عن جهلٍ، إلى رغباتنا وميولنا البشريّة؟ ألا تقف هذه العاهات حاجزًا بيننا وبين المشروع الخلاصيّ لكلّ إنسان؟

لقد تسلّق زكّا الجميزة وهو الرئيس. يا للمشهد المضحك المبكي! يا للسخرية! لكنّه لم يأبه لمن حوله بل كان همّه الخلاص. في أعماق نفسه كان يختلج توقٌ إلى من ينتزعه من هذا الجحيم الّذي يحترق فيه وحده بمرارة، على عكس ما كان يظنّه النّاس.
لم يأبهوا يومًا إلى مشاعره الإنسانيّة، فألبسوه ثوب العار المخطَّط وعلّقوا على ظهره “رقم” علّته كالسجناء، ولربّما كووه بنارهما كي لا يفلت من هذا السجن المؤبّد كما العبيد في العصور الغابرة. شجرة الجميزة تلك كانت أرحم منهم، لقد حملته لكي يراه يسوع فيدعوه هو القادر، يعلم ما بداخل الإنسان ويعرفنا بأسمائنا، ويرانا إن كنّا وراءه أو على الجميزة أو في زوايا المخادع…، بل كي يرى النّاس ما يجيش في أعماقه من ألمٍ وتوقٍ إلى الشفاء. لقد تخلّى عن كرامته وكبريائه وأنانيّته المفروضة عليه، وتسلّق بحماس أطفال الشوارع، وفرِح مثلهم.

في كلمة يسوع لزكّا، إكتشف أنّه ليس ضيفًا ينتظر الإحتفالات العظيمة لاستقباله، ولا ذاك الّذي يريد الجلوس في الصدارة ولا في صالونات القصور، بل هو الصدّيق الّذي يرغب في دخول بيوتنا على اتّضاعها، على أنّه من أهل البيت فنستقبله بفرح، ونؤمّنه على التّنقّل في كافة أرجائه بحرّية. هو الّذي علينا اطلاعه حتّى على زوايا نفوسنا السرّيّة، الحميمة، الوجوديّة، حيث لا نسمح لأحدٍ بالنظر إليها لكثرة ما تراكم فيها من غبارٍ وأوساخ ٍوعفنٍ، لأنّه وحده القادر على تعقيمها وترميم ما تضرّر منها وترتيب هيكلها، ثمّ إعادتها إلى الحياة معافاة، ذات قيمةٍ حيويّة، فرِحة.

فنزل واستقبله بفرح. نزل إلى الأرض وتخلّى عن التطلّع من فوق، تخلّى عن حِيَله ومكره، عن أنانيّته وكبريائه الّتي اعتقدها تُرفّعه عن الآخرين. لقد شعّ وجهه بالفرح وامتلأ غبطةً، فأسرع بالنزول عن شجرته، هو، ذاك الرّجل القصير القامة الّذي أراد على الدّوام أن يكون كبيرًا، نزل كي يلامس الأرض بمفهومٍ جديد: لقد تواضع. لقد أدرك أنّ هناك فقط وفقط على هذا المستوى يبدأ التحوّل الجذري في حياة الإنسان، ولقد حدث ذلك فعلاً. بفعل يسوع الإنسان الّذي أراد أن يأكل ويشرب معه، الإنسان زكا تحوّل. بيسوع الإنسان عاش السّلام المُرسل من الله، وهذه الخبرة قد حوّلته.
إنّ يسوع لم يتحفنا بالكلام المنمّق والوعظ الجميل كي نتوب، بل أجرى الجراحة اللازمة لاستئصال مرض، التعويض عن النّقص والضّياع وال”الكنفشة” والأنانيّة، مستخدمًا مِشرط التواضع والحبّ اللامحدود. ولقد نجحت بامتياز.

لقد شفي زكّا. لقد شعر بأنّ يسوع لم ينظر إلى ما كان عليه من شرّ بل قبِلَه كما هو، وتنبّه إلى قيمته كإنسان، فإنّه لم يعد بحاجة إلى جذب الأنظار إليه بجمع المال الحرام، ولا بالمراكز: لقد تحرّر من هذا العبء، فأعلن بعفويّةٍ ندامته، بتعويضه على كلّ من ظلم نصف أمواله بفرح. لقد بدأ مسيرة درب الحبّ دون أن يفكّر كثيرًا، لأنّ من يتوب معتمدًا بالتواضع والإيمان بيسوع االخلاص، يلبس الحبّ، وينطق بالحقّ، وتفيض ثمار الرّوح غنيّة ً فيه.

فيا ربي وإلهي … أسعِدْني بدخولك على قلبي كما أسعدت زكّا العشار عندما دخلت بيته، أَسعدْني بسماع صوتك، أَسعدْني بالتعرّف عليك، أَسعدْني بخدمتك وإكرامك وحسن ضيافتك. بيتي المتواضع لا يليق بك ولكنك تجعله قصرًا بوجودك. بيتي المتواضع أُقدّمه مسكنًا لك؛ تملّك عليه فأُصبح أنا هو الزائر، فيُهيء كلانا الطعام للآخر: أنا أُهيّء لك الطعام: إذنٌ صاغية وقلبٌ منكسر لتتعشّى معي، وأنت تُهيّء لي الطعام: الحمل الذبيح وكلمتك وما أعْدَدْت لي لخدمتك فأتعشّى معك وأشبع. سبحانك يا رب ما أشهى مائدتك، أشكرك على الدوام. آمين.

جاكي جوزيف ضوميط