رعيّة رشدبّين

Month: April 2018

ظهور الرّب الثالث للتلاميذ

هو ظهور الرّب الثالث للتلاميذ، وهذه المرّة على شاطئ بحيرة طبريّة، مكان اللّقاء الأوّل والدعوة الأولى.  عاد الى حيث جعلهم تلاميذ منذ ثلاث سنين، عاد ليعيدهم الى حقيقة التتلمذ له، ليدخلهم من جديد، رغم خيانتهم وشكّهم ونكرانهم، الى حالة الصداقة معه والى المصالحة مع الله الآب.
على ضفاف تلك البحيرة كانت خواتم اللقاءات الحسّية مع يسوع القائم من بين الأموات. على ذلك الشّاطئ تَكشَّفَت صورة الحبّ الّذي لا يُروى في القصص ولا يُصَوَّر في الأحلام، بل ذاك الّذي لا يموت في النّفوس النّابضة بالحياة، فيتعرّف، مهما كانت الأحوال، على مانحه.في تلك النّاحية، إختلجت القلوب من جديد أمام الهويّة المُستعادة، بعد موت الحبيب. هؤلاء الرجال الصيّادين، وبعد أن تبخّرت أحلامهم ، وأُحبِطت عزيمتهم وثقلَت أذرعهم للعمل مجدّدًا في جمع الأسماك، إضطربت قلوبهم في تلك اللحظات، وكُشِفت لهم الأوقات الصّعبة الّتي زلّوا فيها عند رؤية محنة السيّد والمعلّم يتألّم، وخافوا فهربوا، وشكّوا فطلبوا الدّليل كتوما، ونكروا فتألّموا وبكوا خطيئتهم، أعني بطرس الّذي ما إن تعرّف إلى يسوع عند البحيرة حتّى أيقظت فعلته النّدم والخجل فألقى بنفسه في الماء متَّزرًا بثوبه، ساترًا عريه، على عكس منطق الّذي ينزل إلى الماء، مذكّرًا إيّانا بآدم وحوّاء يوم كشف الله لهما شرّ فعلتهما، فتبيّن لهما عريهما للمرّة الأولى، وشعرا بالخجل والحرج لأنانيّتهما ولِنكرانهما الحبّ الّذي كلّلهما به الخالق… فهل كان لبطرس الشّعور إيّاه؟
هناك وفي ذاك الصّباح، بدا يسوع مختلفًا. في هالةٍ من الصّمت الجديد المُزدان بالقليل من الكلمات، إقترب من تلاميذه. بحركةٍ واحدة وصوتٍ ينسكب كالعشق في النفس الولهانة، “أخذ الخبز وناولهم”. دون قيدٍ وشرط أو كلمات ذكّرهم بإعطائهم ذاته قوتًا حيًّا. أعطاهم الحبّ الكامل بالكامل.

ربّما الصرخات انحبست في أفئدة التلاميذ يومها لأنّ الفرح كان أعظم من دويّ الحناجر. فقط تردّدت كلمتان على ألسنة الأحبّة منذ القيامة:”ربّي وإلهي”، “رابّوني”، “هذا هو الرّب”. باختصارٍ كلٌّ صَرَخَ بصمتٍ في قلبه المتأجّج: “هذا أنت ! أنت الحبيب الرّب!”.
كلّ تلميذ منهم كان يأمل أن تطول لحظات التقاء يسوع الرّائعةِ، تلك الهاربة نحو السّماء من محسوس الأرض إلى عيش الكلمةِ في عالم عطشٍ للحبّ والسّلام وما زال… الوقت حان للرحيل والرّسالة ليست مسامرة عند طلوع الفجر ولا جلسة حميميّة مع أصدقاء فقط، إنّما هي ارتشاف نور الحياة من شمس صّباح الألوهة، وزوّادة إفخارستيّا لمسيرةٍ نحو أعماق بحار العالم حيث الشّعوب على اختلافها كسمك البحر، تنتظر شبكةً لا تتمزّقَ كي تنتشلها من غمار أمواج “الأقوى بقوة ذراعه ونفوذه وماله وحيلته” إلى برّ الأمان والخلاص.

ومن تراه يجذب تلك الشبكة من جديد؟ بطرس المندفع! بطرس الّذي فيك وفيَّ، بطرس الّذي يسمع بنا الحبيب يهمس بنفحةٍ حزينةٍ لمرّاتٍ ثلاث وأربع وأكثر:” …، أتحبّني؟”. فأيّ ملك تراه يسأل (“أتحبّني؟”) بعيدًا عن لغة الدساتير وأفعال الأمر: “أحببني وإلاّ…!”؟ بالمقابل ما هو جوابنا له؟
عساه أن يكون مثل بطرس أيضًا: “أحبّك”، “يا ربّ، أنت تعرف كلّ شيء، وأنت تعرف إنّي أحبّك”. جوابه كشف له الذات الضعيفة، وجعله يقرَّ بقدرة الحبيب على سبر غور النّفس ومعرفتها.
اليوم يدعونا يسوع أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى مسيرة حبّ أبديّة، فما من حياةٍ تستطيع الإجابة بالمطلق على سؤال يسوع لكلٍّ منّا: “أتحبّني؟”.

جاكي جوزيف ضوميط

المرحوم جرجي يعقوب جبور

الخميس ٥ نيسان ٢٠١٨
إنتقل إلى الملكوت السماوي المرحوم جرجي يعقوب جبور مساء يوم الخميس ٥ نيسان ٢٠١٨. وفي اليوم التالي، أُقيمت الصلاة لراحة نفسه عند الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر في كنيسة القديسَين سركيس وباخوس الرعائية في رشدبين، ودُفن في مدفن الرعيّة العمومي.

!ونحن شهود على ذلك

“المسيح قام”، “حقًّا قام”. لكنّك هل تستطرد بقولك “وأنا شاهد على ذلك؟” في الأغلب لا تقولها، وإن فعلت، كانت روتينيّة من غير تفكير.
هل نؤمن حقًّا بالقيامة؟ ألأنّ الرسل والمريمات نقلوها إلينا نحن نؤمن بها؟ كيف ننظر إليها؟ هل الإيمان بها هي طريقة للهروب من الموت؟ كيف شكّ توما؟ أسئلة لا تنتهي نطرحها حول هذا الموضوع وغالبًا ما نبقى دون جواب شاف.

هو الأحد الأوّل، لقد قام السيّد منذ ثمانية أيّام وانتهت بهجة القيامة لمن لا يفتّش عن القيامة إلاّ في هذا العيد. لقد عبرنا فصح الرّب ودخلنا في حقيقة صعوبات حياتنا المسيحيّة: أن نؤمن بما لا يمكن لعقل أن يفهمه، أن نصدّق أن الرّب قد قام، وأنّه قام من أجلي أنا. صعوباتنا الإيمانيّة هي صعوبة توما نفسه، أحبّ كثيرًا فخاف أن يكون كلام الرّسل مجرّد أوهام، خاف من الأمل الخادع، خاف أن يعود الى ألم موت المسيح مرّة أخرى إذا اكتشف ان ما تقوله النسوة والرسل هو مجرّد وهم عابر.
هي قصّتنا نحن، قصّة خوفنا من المجهول، نفضّل عدم التصديق، نفضّل أن نعتبر المسيح غائبًا عن حياتنا لئلاّ نتألّم من فقده مرّة أخرى. هي قصّة اتّكالنا المبالغ به على عقلنا وقوانا العاقلة وتفتيشنا عن حقيقة الله من خلال المنطق الإنساني والدلائل العلميّة. هي قصّة قلب خفت حبّه تحت وطأة عقل كثر شكّه. هي قصّة مجتمع لم يعد يؤمن الاّ بما هو ملموس، وبما هو في متطاول يده.
خوفنا من المجهول الّذي ينتظر الإنسان ما بعد الموت،
خوفنا من أن يكون جسدك قد سُرِق حينما لم يجدوه في القبر،
خوفنا عليك كخوف الأمّ الّتي لا تصدّق قبل أن ترى وتلمس إبنها الّذي أُعيدت إليه الحياة بعد موته بقدرةٍ إلهيّة،
خوفنا على ذاتنا من أن يعضّنا اليأس والألم طوال العمر، كَداءِ البرص، من جرّاء موتك الّذي رأيناه بأمّ أعيننا ولم نستطع أن نفعل شيئًا، …
ومخاوفنا الكثيرة الباقية، جعلتنا نرفض ما حدث لكَ، فهربنا إلى النواحي القريبة من مسرح الجريمة، نهيم حول الصليب من بعيد علّنا نفهم لما قد حدث ذلك، ولم يُفَتح قلبنا على ما قلته لنا بصدد قيامتك في اليوم الثالث.
لم نصدّق لشدّة حزننا على فقدانك وعلى حالنا من بعدك. على الحلم الّذي تصوّرناه أبديًّا معك: عشناه معك في الحرّ والصقيع، في الليل والنهار، مع الفقراء والأغنياء، فحسبنا أنّ كلّ شيءٍ سيكون على ما يرام، وأنّنا معك وبحضورك بيننا بالجسد المنظور سنكون مطمئنّين، لا نهاب غطرسة الحكّام واللاويين ولا إستكبار الفريسيّين ولا حسد الكهنة ولا مكايد الفاسدين.
نعم خفنا، حزنّا، قلقنا، إنهارت الدنيا تحت أقدامنا، فخِلنا أنفسنا نتلاشى ونهبط في وادي ظلال الموت ونحن ما زلنا أحياء.
“طوبى للّذين آمنوا ولم يروا”
أعذرنا هذا نحن توما الأمس واليوم وغدًا. توما كلّ حين في كلّ زمانٍ ومكان.
اليوم، وقد رأينا، حرّرنا من كلّ خوفٍ يعكّر صفْوَ إيماننا بقيامتك المجيدة حبيبي.
حرّرننا من خوفنا من الألم، من الضياع، من خوفنا من الموت وما بعده.
حرّرننا من الإفتقار إلى الحبّ والإيمان ومن إنعدام الرّجاء.
حبيبي، اليوم يوم رحمتك الإلهيّة. حوّل عمى بصيرتنا إلى نور، ومن ألمنا إجعلنا ننتزع الفرح الحقيقي، وأنت اجعل من ضعفنا قوّة ومن شكّنا يقين ومن قلّة تنبّهنا حكمةً وفطنة. علّمنا كيف ننتبه إلى بذرة الإيمان الّتي أعطيتنا إيّاها بالمعموديّة فنحافظ عليها سليمة كي تنمو صحيحة طالما حَيينا.
إجعل من إيماننا شهادةً حيّة تكشف أنّ الله هو المحبّة بالذات، وأنّه وحده من أحبّ كلاًّ منّا محبّة شخصيّة، دون مقابل ودون حدود.
حبيبي، إجعلنا نثق بأنّك رحمتنا وأحببتنا كما نحن. لم تنتظر من أيٍّ منّا أن يحبّ كي تحبّه، بل بحبّك لنا، جعلتنا نعرف معنى الحبّ الحقيقي، فنحبّ الآخر متشبّهين بك يا منبع الحنان والرحمة.
صحيحٌ أنّنا لا نراك بالجسد لكن، إيماننا بك، الّذي هو استجابةً لدعوتك لنا، يجعلنا نلمس حضورك في القربان يا من أحببتنا من قبل أن نولد.
إيماننا بك هو إكتشاف وجودك الفاعل حقًّا في الوجود وفي أعماق الإنسان، إلى أبعد ما يمكن لعقلنا المحدود أن يتصوّره. هو أنّ نحرِّر أنفسنا من كلّ قيدٍ يقبض على قدرتنا وثقتنا وتخلّينا عن كلّ ما يعيق تقدّمنا نحوك، لنطلقها صوب الرّوح الساكن أعماقنا، فيقودنا نحوك يسوعي، أنت القائم من بين الأموات منتصرًا.
ولأنّك الحب اللامتناهي، فنفسنا في إشتياقٍ إليك. هي ظمأى فأروِها، إنّنا نثق بك. آمين.

جاكي جوزيف ضوميط

القيامة المجيدة

المسيح قام!

وعند المساء، عندما يتثاءب القمر فتهرع الغيمة وترتمي عليه لحافًا يقيه البرد، صرختي الأولى كانت إليك، وندائي الأول، نغنغتي ومناجاتي.. وجودي.. بشريتي، ضعفي، خوفي، حزني، فرحي، كلُّها تقودني إليك.
ذات مساء كنت بين خيان الشوق إلى لمسة حبك كان الظلام بيني وبينك، وكانت السماء أبعد في نظري، والخوف أقرب في قلبي، والطريق إلى النور طويل..
وعندما وصلتي نسمة على رأسي وشعرت بها تقول لي: يا ولدي، الطريق إليه آمن.. إنتبه أن تتوقف.
ثم أشارت إلى الأعلى..
وهمست في أذنيّ نغمة حب ولحن حياة
“كما حوّل الحجر الذي دُحرِجَ عن باب قبره لشاهد لقيامته سيحوّل قلبك لقلب ينبض حب مع كل دقة وعقلك ليكون مسكن لافكاره وفمك لفاه يسبحه، يمجده، يشكره ويعلن خلاصه، ويديك لاداة بين يديه ورجليك لتتبع خطواته وعينيك لتراه بكل آخر.
أمن الموت خائفة؟
لم يجرؤ الموت ان يقترب من المسيح بل المسيح قربه اليه
لقد مات المسيح حقًّا
لكن غير مقهور من الموت
لقد اقتحم المسيح قوات الجحيم ليس كمن سقط في مخالبها ولكن كغالب حطم قواتها
لقد ظن الموت انه فاز بغنيمته
وحالما أبصر يسوع متقدمًّا نحوه تيقن أنه لا بد من رد المسلوب
فلم يقو الموت علي مناهضة ابن الله فترك الغنيمة بين يدي صاحبها
وتقهقر الموت أمام الجبار
لقد دخل يسوع الى مكان الموت ليميته … ويحل أدم من سلطانه
أشرق النور على الحزاني وأبهجهم
المسيح قام، ودقّت الأجراس فرحًا وإبتهاجًا بيوم السلام، يوم الفصح أي العبور من الموت إلى الحياة، اليوم الّذي تحقّقت فيه نبؤات العهد القديم في الخلاص بالفداء بالمسيح يسوع، فهذا هو إذًا اليوم الّذي صنعه الرّبّ، فافرحي وتهلّلي به !
صوت الكتاب المقدّس والرسائل يهتف بإيمان أنّ الوعد قد أصبح واقعًا، قَلَبَ حياة كلّ من آمن به، وقادهم إلى أقاصي الأرض ليعلنوا البشرى، بشرى الخلاص. لقد حوّل كلّ رغبةٍ في العيش إلى حقيقة، وكلّ أملٍ إلى رجاء، وكلّ موت نفسٍ إلى حياة رغم ضعفك، وفشلك، وفعل الخطيئة الّتي لا تنفكّ تلاحقك لتقذف بك في هوّة الموت المُبيد.
شاهدي القيامة في كل اطلالة شمس توقظ البرايا الى الحياة والتسبيح
في تفتّح الزهر بعد شتاء رمادي رتيب
وشاهديها بقرع ألاجراس إلى الموعد وسط ضجيج زمننا المشتت
بصيحة هللويا تطلقها حناجر جرّحها الألم والظلم
بالنهوض من بلادة الإحباط والقنوط والتخاذل إلى رحاب الفرح والحياة.”
ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول الصعود إليك، وكلما اقتربت منك وجدتك أقرب إلى قلبي وأبعد من خيالي
أحببتك قبل أن أخافك، وكلما سمعت اسمك صرت به أكثر ثراء
يأتي اليقين بعد الشك، يأتي منثالا بجمال ما أودعته وأبدعته يا رب في أعماق المحيطات وأجواز الفضاء
في ألم الأمهات وعجز الأسئلة.. ومرارة الفقد؛ يأتي التضرع باسمك..
في وهن الجسد وضياع الروح.. وقسوة الخسارة؛ يأتي التبتل إليك..
يارب.. كنت معي في ظلمة الرحم، في طفولتي وأحلامي في تفاصيلي الصغيرة
كنت معي في الإخفاق والنجاح، في مواجهة الحياة، في الانطلاق والنهاية، أمام ألسنة جارحة وخلف مخالب الظلام
يارب، وأنت الجميل الذي خلقتني جميلاً، وأردت لي أن أكون كما خلقتني؛ أبقني على فطرتك بعيدًا عن تشويه ذاتي
يارب، إمنحني القوة ألاّ تتعثر خطاي في مسيري إليك
يارب.. أعطني يقينا بقدر أملي فيك، واجعل ما بيني وبينك مسافة حب
يارب.. وأنت الكبير في عليائك وأنا الهباءة في كونك؛ فكن أنت الصاحب في سفر الحياة، آمين
يا رب اجعل كل شي في كياني شاهد حي لقيامتك يصرخ ويقول المسيح قام حقًّا قام أين شوكتك يا موت أين انتصارك يا جحيم، قام المسيح وانت قُهِرت، قام المسيح ولم يعد في القبر ميت لأن فصحنا المسيح قد ذُبح. له المجد والعزة مدى الدهور. آمين.

جاكي جوزيف ضوميط

الجمعة العظيمة

يا هذا! يا أنت! أيها المعلّق على شجرة! أأنت المسيح أم يهوذا؟
كم أكره الحزن الذي رسمناه على وجهك لأنه طبع البشرية بصورة الألم حتى صرنا نستسيغ طعم دمنا، ونلعق جراحنا كالكلاب المريضة، ونفتّش عن المرض كما تفتّش الهررة القذرة عن طعامها في صناديق القمامة، ونقول: لا بأس، مع آلامك يا يسوع! صرنا نبحث عن الحزن والعذاب، عن الضرب والجلد والكآبة ونهرب من الفرح والسعادة..
جعلناك بائسًا مسكين!
نرتكب الآثام باسمك، وأنت تحني رأسك محبة
يبكي الناس مرّة في السنة عند استرجاع ذكرى آلامك، وأنت صامت تتفرج كما يتفرجون.
يرتفع رأسك المكلّل بالشوك الثمين فينظر إليه الناس ويحللون العمل الفني فيه، والمواد المصنوع منها، ويحاولون أن يحددوا عمرًا لديمومتك في ساحة بلدتهم
ألن تهرب الليلة من على الشجرة التي علقوك عليها كأنك يهوذا؟
كم أكره الحزن الذي جعلوه علامتك المميزة!
يليق بك حب، تليق بك السعادة، يليق بك الفرح!
كم أكره الحزن على وجهك لأنه يذكرني بحزن البشرية كلها، بتعب العالم كله، بيأس الناس في كل مكان، بالأشجار التي كانت خضراء وصارت صلبانًا.
إنزل عن الشجرة يا رجل واحملها وامسك يدي لنجعلها حطبًا في موقد جبلي، ولنسهر معا فتخبرني حكايات تمحو الحزن عن وجهي لأني عندما أسمعك سأبكي فرحًا، سأبكي كثيرًا، وعندما أبكي سأرتاح، وأغفو على صدرك وأنا مبتسمة
أكره الحزن الذي ألصقوه بوجهك يا صديقي المسكين، والسير إلى الموت كأن لا خيار آخر أمامك، والخضوع للضرب والإهانة، والضعف الذي ألبسوك إياه إنزل عن الشجرة العارية يا صديقي العاري، وارم أشواك تاجك تحت تراب أرض المحتفلين بحزنك، وامض معي إلى حيث لا يجدنا أحد، لعلنا بعيدا عنهم نبتسم قليلاً.
فأي رجال تاريخ كنت يا هذا العظيم؟
انك لم تخط سطرًا في كتاب، و لم تنظم قصيدة، و لم تضع بندًا في أحكام دستور، ولم تكن جيشًا، و لم تحمل سيفًا، ولم تضع أساس امبراطورية عالمية، بل متّ مصلوبًا ! لكن سلطان نفوذك و مقدرة عظمتك تخطت نفوذ أقدر الكتاب وأكبر الفلاسفة.. لقد تربع اسمك على صفحات التاريخ، ورن في أرجاء المسكونة كما ترن الموسيقى من ألف جوقة في نشيد واحد، وعطر أجواء القارات بأسرها كنفح الطيب الذي حمله النسيم من جنة الخلود. وحمل راية المساواة بين القصر وسوق الأرقاء سواء بسواء. أجل، إن اسمك يا يسوع إنطبع غرة في جبين الزمن، فيا لك من فريد يا يسوع !
فلماذا تتحدث البشرية عن آلام المسيح، فأقرأ بين سطور عيونها معجم الحزن، وكأن عيناها تنوه عليه وتصبح على حافة ذرف الدموع على عذاباته…
لما العواصف الإنسانيّة ترى يسوع الناصري مولودًا كالفقراء عائشًا كالمساكين مهانًا كالضعفاء
مصلوبًا كالمجرمين
فتبكيه وترثيه وتندبه
منذ تسعة عشر جيلا والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع. يسوع كان قويًّا ولكننا لا نفهم معنى القوة الحقيقية
ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا ولم يمت شاكيًا متوجعًا
بل عاش ثائرًا وصلب متمردًا ومات جبارًا
لم يكن يسوع طائرًا مكسور الجناحين
بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة
لم يجيء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزًا للحياة
بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحق والحرية
لم يهبط يسوع من دائرة النور الأعلى ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الاديرة والصوامع، ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قساوسة ورهبانًا
لم يجيء يسوع ليعلم الناس بناء الكنائس الشاهقة والمعابد الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الانسان هيكلاً ونفسه مذبحًا وعقله كاهنًا
لم يصلب يسوع لنرى بصلبه الحزن والرثاء
صلب ليعطي لسعادتنا حياة، لحياتنا معنى، لقلبنا حب، لروحنا خلاص
هذا ما صنعه يسوع الناصري ولو عقل البشر لوقفوا اليوم فرحين متهللين منشدين أهازيج الغلبة والانتصار
إن إكليل الشوك على رأسك هو أجل وأجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفك أسمى وأفخم من صولجان المشتري، وقطرات الدماء على قدميك أسنى لمعانًا من قلائد عشتروت
فساعدنا يا سيد نحن أبناءك الذين ننوح عليك، هبنا أن نرى في صلبك الحب، لنرى فيه الإنتصار على الموت ولا الهزيمة، ولنزرف دموع الفرح لأن أرواحنا شفت بدواء محبتك اللامتناهي
فموتك فخر لنا، لأن موتك هو حياة لنا!
جاكي جوزيف ضوميط