رعيّة رشدبّين

Month: March 2018

نهار عيد الأم

إلى أمّنا مريم العذراء

ب حَقِل مزيّن بطيّات حرامو مغطّى
وبعطر الياسمين محمّم حالو مِستِحي
مستحي الحقل من صوت العصغور مغنّى
معمّر بجناحه فيٍّة أرض ومنحني
ب حقل شربت زهراتو حب ومتهنّى
متهنّى الصخر بلمسة عطيتها الدني
لمسة إم خلقها الرب وتأنّى
بكل شعرة تَتِطلع لوحة مزيّني

خلقها وردة بين الحقل واشواكو
خلقها نغمة تسمعها الدني وتسكر
تسكر ع كاس الحلى وألحانو
اللي وعّى النايم وعّى باب مسكر
مسكر هالباب و حزنان عحالو
لأنو ما عرف عَ صوت الحلى يسهر
ولما شاف آية خلقها الرب كرمالو
قلو القلب عَ إيدا بدّي إكبر

خلقها آية جمال مقدّسة
آية بإيدها الصمت حملتو سلاح
ركعت عتختا اللي كان إلها محبسة
صرخ صمتها للرب وقلو جراح
حيطي بريشة بالحب كلها مغمسة
ولما نكسر حيط الصمت رتاح
قالت نعم أنا أمة مكرسة
لمشيئة ربي اللي الهمّ عنّي زاح

بكلمة منها ابتدا العهد الجديد
وبكلمة منها انبصمت لوحة إيمان
وبكلمة منها سكرت قانا الجليل
لما طلبت من إبن الإنسان
يعبّي جرار الخمر، يدفّي الجليد
بأوّل آية عرفها الزمان
بكلمة منها انكتب بالخط العريض
ابتدت الحكاية اتجسد الله العشقان

من وردة لبست قلبها يوم الولادة
لشوكة غرزت وردة بدرب الجلجلة
من شوكة جرحت قلبها حرمتو السعادة
لتاج النصر إجا يتوج مرحلة
تتوج قلبها بإكليل زهر القيامة
لما إبنا عالموت بنى مملكة
لما صار الحب أعظم ديانة
قلا الرب انشري هالحب واملكي

ومن وقتها صارت تدعى أم الرب
أم الفادي والمسكونة كلها
عدرا شرقت شمسها ع دروب الحب
وبغمرة حنانا لفّت الدني بقلبها
حملت صمت وطهارة وسلكت الدرب
والكون اليوم حامل مسبحتها
هيي سلاحو بيحمي فيها القلب
العدرا اليوم أم الأرض وملكتها

جاكي جوزيف ضوميط

تأمل في إنجيل أحد آية شفاء الأعمى 2018

أحد آية شفاء الأعمى
بحرٌ من الحجّاج يتماوج في الطريق نحو أورشليم وبينهم يسوع والتلاميذ؛ يحيط بهم أشخاصٌ عرفوه وسمعوا بمعجزاته. الكلّ يتحرّك لأداء فروض الحج قبل الفصح، محمّلين بالتقادم والزّاد إلاّ “ابن طيما”، أعمى من أريحا، يجلس على قارعة الطريق مهمّشًا ومرزوِلاً لعاهته، ومحُسوبًا منجّسًا وصاحب خطيئة، فأضحى الكلام عنه ممنوعًا ولو حتّى للمطالبة بحقٍّ له. ومن عمق الألم الذي طالما رافقه أطلق صرخة الرحمة فمزّقت زمجرة الشوارع وضجيج المارة: “إرحمني يا ابن داوود !” ومن سيسْمَع لهكذا أعمى؟ “من أنت؟ من تحسب نفسك؟ أهكذا يصيحون بالمعلّم؟ إبقَ حيث أنت… المعلّم؟ لا وقت لديه…” ولكنّ الإيمان بأنّه “هو” من ينتظر، “هو” ابن داوود، وقد عرفه، “هو” صاحب الرحمة والقدرة على الشفاء، “هو” وحده من سينتشله من موت الجمود، موت الحياة الاجتماعية، الروحية، العملية… توقّف يسوع وناداه، فوقفت الجموع كلّها معه، وكأنّ الزمن توقّف ليبدأ مخاضه وَيلِدَ “طيما” المبصر المُجَدَّد بالروح والجّسد، إنّها ساعةُ صفرٍ لعهدٍ مضى من حياة ذاك الأعمى، أوقف كلّ حركة لأنّ هناك أحدٌ كان مسمّرًا في مكانٍ ما وليس باستطاعته أن يمشي. وقف، خطى ونزع عَباءته عن منكبيه إشارة إلى نزع التقاليد والشرائع المفروضة عليه والّتي أنهكته سنين طوال واسْـتَبْعدَتْه عن الجماعة: خلعها ليتعرّى من إنسانه “العتيق” ويلبس حلّته الجديدة بمعمودية الإيمان. لم تقف تلك القواعد ولا حتّى الجموع حاجزًا بينه وبين يسوع لأنّ قلبه كان متبصّرًا، فما رآه بنور عينيه بل بالإيمان وبصيرة العقل. ويسوع ! …ذاك الراعي الأمين، هو وحده سمع لذاك الصارخ في برّية أولئك الناسّ حتى التلاميذ منهم؛ وحده الذي عرف بأنّ “ابن طيماوس” هو المبصر الوحيد بينهم للحقيقة. شفاه، ولاتّقاد قلب ذاك الشاب المُعَرّف عنه باسمه، إتّحد بصره بالبصيرة وأكمل الدرب مع “الشافي”، مسبّحًا شاكرًا دون أن يرجع حتّى إلى ذويه ليخبرهم: قد وجد البيت الحقيقي له، فلن ينظر إلى الوراء.
بين صرخة ابن طيما الأعمى: “يا ابن داوود ارحمني”، وسؤال يسوع له “ماذا تريد أن أصنع لك؟”، يُسمع “انتهارٌ” مؤلمٌ، صمُّ الآذانِ عن الأنين المُوجِع وفتحها، فقط، على الضجيج وهتافات الحناجر النحاسيّة، الساعية إلى خنق النداء، ووقف اللقاء.أمواجٌ من الناس منهم المرافقين والمتفرّجين، المترقّبين والمُسْتَزلمين، المُرائين وطالبيّ المعجزات… تزحم يسوع، تَسْمَع كلّ شيءٍ، عدا صوت القلب المتعطّش للشفاء: ما من أذُنٍ تُصغي إلاّ “هوْ”!

كلّ تلك الغوغاء لم تُثبت قوّتها ولا فِعْلها في هدم الثّقة بين الإبن المُعَوَّق وأبيه، وبين شوق طيما (الأعمى) إلى الشفاء ورغبة يسوع في تحقيق أمنية قلبه: أن تعود إليه الحياة التي، حتى تلك اللحظة، كانت تدور من حوله وهو ملقًى على هامشها… وبكلمةٍ واحدة من يسوع، “أدعوه”، صَمَتَ الكلّ وساد العجبُ. لقد تبدّل كلّ شيء! مرافقوه الّذين اعتقدوا أن المسيح هو خاصّتهم، ولهم وحدهم القرار في اختيار الأكثر استحقاقًا كي يقترب منه أو يطلب آية ورحمة، تحوّلوا إلى منفّذي أوامر! لم يدركوا بعد عمق سرّ المحبّة بعد، وما زالوا يجهلون متطلّبات الرسالة.

فمن يستطيع أن يسمع خفقان القلب ويشعر به إلاّ الحبيب؟
أما كان هذا ما يبحث عنه يسوع في الإنسان، فسمعه عند ذاك الساكن على قارعة الطريق؟
إنّه يبحث في أعماق القلب وأشواقه ويسأل: “ماذا تريد؟”
ألا يعلم بحاجاتنا الدفينة؟

إنّه الوحيد الذّي بمقدوره أن يكشف لنا المَسْتور والغامض من حاجاتنا. لكنَّ سؤاله، له من الأهميّة بمكان، لأنّه يوقظ فينا ما هو أبعد من المنظور. إنّه يدفعنا للغوص أكثر في أعماق النفس، كي نكتشف الرغبات التي ما زالت تقبع في الظلمة، وترفض أن ترى النور، فتبقى مختبئة تحت “عباءةِ” الخطيئة، إلى أن تغيّر هويّتنا شيئًا فشيئًا، ملتصقةً بنا التصاق الجلد بالجسد، مُعَوِّدةً إيّاها (أي النفس) على قبول قباحتها، فتتخلّى تدريجيًا، دون أن تدري، عن حريّتها وتفقد جناحيها. وبَدَل أن تترفّع عن الدنيويّات فتحلّق في فضاءٍ جميل، تبقى على “قارعة الطريق” ملازمة تراب الأرضِ وغبارها اللّزج، فيعلق بها ويُشَوّه وجه الخالق فيها، ويمتلىء أنفها “بروائح الأرجل” المارّة قربها وهي تلطمها يمنة ويُسرة.
أفلا نقبل التحدّي، ونقرّر تخطيّ الخوف من الخروج إلى نورهِ بكلّ رغباتنا، كي نعرّيها بحضوره؟

ألا نرغب في الحريّة الحقيقيّة، والشفاء الأكيد، والغفران؟
ألا نتوق إلى اكتشاف معنى وجودنا، وإشباعِ جوعنا إلى الحبّ؟ أن نُحِبَّ ونُحَبّ بتجرّدٍ، بعيدًا عن المصلحة الشخصيّة؟
ألا ننشد السعادة والحرّية، ونحلم بإطلاق الصوت عاليًا في صرخةِ فرحٍ مُدَوّية، وتسبحةِ شكرٍ للذّي خلق، واهبًا القلب للحبّْ، والفكر للفهم، واللسان للتعبير؟

لتكن لنا جرأة برطيما، بطلب الحريّة “إرحمني”، وجهوزيّته الفائقة “وَثَبَ”، وإيمانه بالانخراط في الحياة التي همَّشَتْهُ “أريد أن أُبصر” . لنُلقِ “عباءتنا” ونستعدَّ للإنطلاق أحرارًا بإيمانٍ وثقة، وإلاّ، تآكلَنا عَفَنُ العزلةِ، واختنقنا في زنزانةِ الإبتعادِ عن النور والحياة مع الآب بالإبن والروح.
من منّا ينزع عباءته كي يخفّ المسير نحو الآخر؟ من منّا يترك كرسيّه لِوَلدٍ صغير يرغب في الجلوس عليه ولو لثوانٍ؟ من منّا له في السلطة مكانًا ويستخدمه من أجل خير الآخرين بتجرّد؟…
كلنّا نتفاعل مع الكلمة والإحساس، ولكن الفعل يبقى في طيّ التناسي. كلّنا نتسابق في زرف الدّموع والتعبير عن مختلف المشاعر بكلماتٍ ليست إلاّ كلماتٍ ملوّنةٍ بالنبرات المُنتقاة من قاموس المظاهر، فتنزل كالمطرقة على أوتار النّفوس المتألّمة، المحتاجة إلى قلب “والد الإبن الضّال”، ويديه الحاضنتين دون كلامٍ كثير… من منّا يؤمن بأنّ عظمته تكمن في حرّية اختياره خدمة الآخرين بتواضع القلب والفرح؟

فلنأخذ استراحة ونوقف عقارب أنانيتنا أو “بروتوكول” منصبنا للحظات كي نسمع صراخ من هم بحاجة إلينا. وسوف نكتشف أنّنا نفسنا من هي بحاجةٍ لوقفة مع الذات وذات الله التي فينا. فلنزح رماد الفتور عن قلبنا لمرّة كي تتأجّج نار الحبّ التي داخلنا بالتّأكيد، فنتحوّل نحن إلى حياة عاكسةً فرحها وسلامها على الآخرين. فلتأخذ صمتنا إلى زاويةٍ من زوايا الخالق العظيم ونتأمّل في ما أعطانا من حبّ، فلنؤمن بقدرته التي يكنزها داخلنا وننطلق مع الأعمى المُجَدّد في طريق الرحمة والحقّ.

جاكي جوزيف ضوميط

تأمل في إنجيل أحد آية شفاء المخلع 2018

أحد آية شفاء المخلع
ها إنّي اليوم أنا “الآدمي”، أستغل حب الخالق، أتاجر بحرّيتي الممنوحة لي في “السوق السوداء” التي سلبتني إياها، ورمتني مخلَّعًا في فقر النفس الأنانية، والغيرة من الله، فسقطت في تعظيم ذاتي: كيف لا أكون مثل الله، ذو سلطان، وآمرًا ناهيًا؟ ها إنّي اليوم ينغلق وجودي بأسري على سرير لا أغادره، وعلى صدقة أطلبها، متعلّقًا كليًّا بحسنة الآخرين يرفعونني وينقلونني. متألم أنا من سبب إعاقة روحي، مطروح دون حراك، أصرخ من ثقل خطاياي ودموعي حفرت دربها على وجهي..
ها أنا اليوم ضائع في ضجيج هذا العالم تائه بين أهوائي غارق في مستنقع شهواتي..
هل من أحد ينتشلني؟
هل من يد تحمل بإحدى أطراف سريري أنا الذي لم ألتقِ بعدُ بيسوع وما زالت مخلّعًا في قلّة حبّي وحقدي وضعفي وفقداني لسلامي الدّاخليّ… هل من يد تضعني بحبّ وإيمان بين أحضان الحبيب لأُشفى؟
أمرٌ صعب ومُرّ، لكني زاحف باحث عن فتات رحمة عند أخي الإنسان، فالحبّ والمسامحة هما دوائي الشافي.
هل من يد تزيل القشّ والعيدان والتراب لعمل فتحة في سطح البيت الّذي يسكنه يسوع كي تدلّي منه سريري؟
هل من أحد ينقلني إلى سطح المنزل حيث يجب “البَحشُ” بالأصابع وبأيدٍ شديدة وإرادة صلبة: عملٌ شاقّ لكنّ ثمرته ليست سوى الحبّ لروحي الّتي، ربّما، لا تُشفى إلاّ إن رأت فعل حبّكم له يحمل تخلّعي في سريري أمام إله الغفران والمسامحة والحبّ.
حبّكم لي هو ما سيدبّر اللقاء مع يسوع، لقاء سيكون له الوقع الكبير فيحصل شفاء الرّوح بغفرانه خطاياي، وشفاء الجسد منه لأعود معافىً على الصعيدين.
أنتم يا إخوتي قادرون بحبكم أن تنتشلونني من ألم الخطيئة الذي يقتل روحي ويرميني في زقاق الموت
أنتم يا أعضاء جسد المسيح دواء شلل روحي
حبّكم لي يهدم جدار الحقد المغروز في تربة قلبي الجافة
فالحب سلاح عجزت قوّات العالم على التّغلب عليه
عرّفوني على كلمة الله الحيّة، على إنجبل الرب الذي رُسمَت في طيّات صفحاته وجه الحبيب الحنون الغفور، وجه ابن الله الحق وعندها ألتقي الله الذي لم ولن يحنث بوعده، ولم يتنقل، حسب الظروف، بين ال “نعم” وال “لا” في مسيرة خلاصه للإنسان. هو دائمًا إله العطاء والحب المقدس اللامشروط. إنه إله ال”نعم” للحياة، دون منازع، وإله ال”نعم” للرحمة والغفران، لعطية الأبوة، فيجعل منا أبناء له بسكنى روحه في قلوبنا. هو الآب الذي يأبى إلا أن توضع خمرة توبتنا الجديدة في زقاق جديد فلا تراق هباء، بل تولِد عالمًا جديدًا، ينبت ثمار فرح وسلام، صحيحة، طيبة وفيرة.
عندها أتكلم مع يسوع بصمت النظرات الصارخة: إرحمني يا أبي من “شماتة الناس”، واشفني من خطيئتي، فتزول اللعنة عن جسدي وأستريح!
عندها، سترون تفاهم وتناغم إسراري بيني وبين المخلص. فيسوع، ذاك الوجه الجميل والشخص الحنون سيغوص في أعماق ألمي ويرى عذاب روحي من سخرية المجتمع والتشفي بي لأجل اعتقاداتهم “المقصلية”، فيناديني بكل عذوبة “يا بني!”، يعتقني من مؤبد قساوة قومي وإهانتهم لي.
عندها سأنتبه إلى حنو الآب نحوي. سأتحسس بالإيمان في أعماقي. سألاحظ أنه بتلك العبارة قد رمم علاقتي البنوية به، مزيلا عن كاهلي عبء الخطيئة، موضحًا لي السياق الذي أدى إلى تلك المصالحة “مغفورة لك خطاياك”
عندها سأحمل إيماني الثابت بأن شفائي قد تم بحبّكم أنتم إخوتي بالمسيح
وعندها، منذ اللحظه الأولى لالتقاء نظراتنا، سأنقل شكري، من القلب إلى القلب، من ابن إلى ابيه، لأنّه وضع في طريقي حبّكم الكبير لي
و بدمعة حب أخرس وبسمة أمضي من أي كلام تمحوه الريح بعد حين، أُبحِر في بحر المحبة في عيونكم، أرتشف منه قطرة، وأمضي…
جاكي جوزيف ضوميط

صوم الطبيعة

سألت الطبيعة عن الصوم، بحشرية تغلغلت أعماقي، فنظرت إلى خالقها وقالت: في حنايا الصمت، أصوم
قمم جبالي تتسارع للمس طرف ثوب العلي، تقتات ثمار الخلاص وتحني رؤوسها أمام من رسمها بقلم العظمة لتشبع أجوافها وتصوم بخشوع. أزهاري تخلع عنها ثوب الظلمة، تفتح يديها شاكرة من أعطاها الحياة، ترقص ممجدة اسم الرب. أشجاري سلخت جذورها عن هذه الأرض الفانية، وغرستها في صحراء الفادي، حيث ارتوت من نبع حنانه ونمت تحت جناح حبه. كل ما فيّ يصوم بصمت، بخشوع. كيف لا والآب المحب هو الذي، وبنفخة واحدة، دفعني إلى الوجود. هو الكلمة التي تدحرجت من كافها أرضي، التي علت جبالي كلامها الشامخة، حفرت في ترابي وديان بعمق ميمها، وبطرف تائها جمعت عناصر شتى، فكانت حياتي. فيها كانت الحياة.
بالصوم استفاقت روحي ورفرفت عصافيري نحو سعادة الأبدية
صمت وأدركت معنى الحب وعندها
وعندها كانت الحياةهلم معي يا رفيقي نتبع درب الصليب
نسير معًا في طريق رسمه حب الحبيب

هلم معًا دون تواني لكي نخطو بالسباق
نتبع أثر يسوع ونعلن حبه في كل زقاق

هذا طريق سار فيه يومًا ، مخلِّصًا أحب الخطاة
لم يتوان بل بكل حبٍّ بذل ظهره للقساة

هيا يا صديقي نتبع خطوة بخطوة ، درب ذاك الإله
أنظر معي قطرات دم ترسم لنا طريق السماء

قطرات دم تتكلم وتعطي للميت حياة
فهيا معي يا صديقي لنرى قصة ذاك الإله

هناك فوق ربوة عالية، كانت أعظم قصة فداء
أنسان بريء ، للجميع جاء ليعطي حياة

جاكي جوزيف ضوميط.

حبّك ربّي

ربّي، يجعلك الغياب حاضرًا أكثر
أنت في غيابي لا تغيب
تحضر بين لون الحبر والحبر
في ثنايا التعب حين يصير التعب جلدًا أليفًا لا أخلعه عند النوم
عند انعطافة الريح في آخر الطريق التي أنتظر منها أن توصلني إليك
يسكنك غيابي فسيح جنات اشتياقك إلي في حضنك
فكيف لمن أحبني حتى الموت أن يراني بعيدة؟
تصير وجوه الناس لوحة يختبئ وجهك تحت أحدها
ليشرق علي من بين غيمة إشتياقك على غيابيغيابي يقربني منك يا يسوعي
فأغرق في ماضي وأراك في كل الزوايا تسكن نفسي وتتربع على عرشها
أراك حين بكيت يومًا وامتدت يدك لتمسح دمعتي
كنت موجودًا ولم أستطع أن أدرك وجودك
لأنك كنت نسيمًا وأنا كنت أبحث عنك بين العواصف
ولأنك كنت نهرًا يلتف حول جبل أحزاني وأنا كنت أريدك سيلاً يجرف أوحالي

حبك الربيعي ربّي يتسلل إلي من ثقوب الأبواب التي ظننتها صارت محصنةً ضد حضورك
فأتصل بعالم كنت أظن نفسي معزولة عنه
ثم أتبين أنك جعلتني على صلة وثيقة به
كأن حبك لا بد منه
كي تستعيد الأرض محورها
وتسترد دقات الساعة إيقاعها
وتنتظم علاقة الليل بالنهار
وتهدأ وتيرة الحركة في شوارع الأيام المزدحمة
وتعود الشمس لتشرق من الشرق وتغيب في الغرب
كأن لا بد أن تحبني كي لا تفنى الحياة كما يعرفها الناس

يعيدني حبك إلى صدرك
يخرجني من عقلي ويضعني في حضنك حيث ألقي رأسي المثقل بالتعب والألم
وتعيدني طفلاً يحتاج إليك ليحيا
وتعيدني طفلاً يخلع أفكاره عند لقياك
ويرتدي راحة غلالة نوم تدعوها إلى استنشاق حبك.
وطأت روحي، صغتني أنا من معارف جمعتها سحابة العشق وأعطيتني هوية تنسبك مسجلة باسم الحب

غريب أمر حبك يا يسوع!
فهو يتنقل بي بين أسئلة معلقة على مشجب الوجود بعلامات استفهام:
الحب ثم الحب ثم الحب
وغيرها كثير من عباءات الحب تلف جسدي كل يوم بواحدة منها
وعند الفجر العاشق
عندما تلهف روحي لرؤيتك وبي خشية من بعدي عنك
أحيك أسطر كلماتك وشاحا أتدثّر به

في غيابي عنك يا رب، أحصي كلماتك التي لم أرها بعد
رسائل حبك في كل كلمة في إنجيلك التي كتبتها خصيصًا لنا نحن أبنائك ولم نر أرى منها شيء بعد
وتنتظر كي أراها غارقة بين يديك حين تسلمها ألي مع فيض حبك
في حبك
أرتب العالم
أنظف جوارير الذاكرة
أكنس الأوراق الذابلة عن مكتبي
أمسح غبار الوقت عن زجاج ساعة الحائط
أكوي أفكاري التي جعلكها التقلب على قلق الانتظار
في حبك
يغيب كل ما عداي

جاكي جوزيف ضوميط.

ربّي

مشتاق زورك ببيتك ولو بالأحلام
آخر السهرة وفي حد البيت صفصافةوتكون ناطرني ع لهفة قلب ولعان
ويرقص قلبك ع مسمع دعساتيونسهر ويضحك ثغر الليل البسام
وتسكر النجوم ع كاس حبك عطشانينقعد نحكي وتنسيني الآلام
إنسى الوجع وإنسى سنين خرباني

نحكي قصة كرم الزيتون السهران
ع دمعة بي من الوجع هرباني

نحكي قصة قلبك العشقان
اللي عخشبة حب انصلب كرمالي

نحكي قصة قلب إمك الزعلان
اللي تتوج بأعظم قصة قيامة

قصة ما بتتكرر بتاريخ الزمان
ولا بتنتسى ولو بعد سنين نسياني

قصة صليبك تحت الشتي غرقان
تعمد بدم زرزب ع خشبة سنديانة

وبعد تلت ايام آن الأوان
تتم المشيئة و تتم القيامة

عجبين الزمن تتوج الإنسان
اللي قتل الموت وبإجر حفياني

دعس ع قبر الشر و وعى النعسان
قلو قوم معي جرة حب ملياني

بيخلص الليل و القمر بعدو سهران
وحتى النجوم تتفل مش قبلاني

مفروض إرجع طريقي سير عالأقدام
وللدرب اللي بقي من الليل مش كافي

بتقلي ما بقبل معك خليك عندي نام
دربك رياح وخطر والطقس مش دافي

وابقى وبعد السهر انت ع ريش نعام
تغفيني وتبقى أنت والحب ولحافي.

جاكي جوزيف ضوميط.

الصلاة الربية

(الصلاة الربيّة (مت٦: ٩ – ۱٥
الخوري جبرائيل شعنين
جاء في إنجيل القديس متى أنّ الربّ يسوع في عظته على الجبل طلب من تلاميذه والجموع أن يصلّوا، فقال لهم: “ومتى صلّيتم، لا تكونوا كالمرائين… وعندما تصلّون، لا تُكثروا الكلام عبثًا كالوثنيّين… أما أنتم فصلّوا هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليُقَدَّس (ليتقدَّس) اسمُك، ليأتِ ملكوتُك، لتكُن مشيئتُك كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا خبزنا كفاف يومنا. واغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر أيضًا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في التجربة، لكن نَجِّنا من الشرير…” (مت6: 5-15). لقد حذّر الربّ يسوع في كلامه هذا كلّ سامعيه من الأسلوب في الصلاة: حذّر من صلاة المرائين ومن صلاة الوثنيّين. لكنّه لم يكتفِ بالتحذير من الخطأ، بل قدّم لنا أُسلوبًا صحيحًا ونموذجًا رائعًا في الصلاة وجَبَ على كلِّ مؤمنٍ أن يتَّبعه.
إنّ الصلاة الربيّة معروفة بصلاة الأبانا: ندعوها الصلاة الربيّة، لأنّ الربّ نفسه علّمنا إيّاها. ولهذا، تشدّد الكنيسة عليها في صلوات الساعة اليوميّة، وفي خدمة الأسرار المقدَّسة. إنَّها جزءٌ من العظة على الجبل التي أعطتِ البشريّةَ كلَّ تعليم العهد الجديد.
ولأنّ هذه الصلاة هي النموذج والمثال، سأغوص في أقسامها مستخرجًا ما يمكنني استخراجه، مبيِّنًا ما سكب الله فيها من جمالٍ وبركةٍ وخلاص، جامعًا القسم الأوّل، قسم التمجيد، مع القسم الثاني، قسم الطلبات، بهدف إيصال المعنى الحقيقي لهذه الصلاة اليوميّة التي علّمنا الرب.
1- أبانا الذي في السماوت
في العهد القديم كان المؤمنون يخاطبون الله باعتباره “السيّد” (راجع تك 18: 27، 30-32)، و”ربّ الجنود” (راجع 1صم1: 11) و”الربّ إله السماوات” (راجع نح1: 5)… أما التعبير “أبانا” فلم يستخدمه أحدٌ من الأنبياء والمرسلين، إلى الزمن الذي جاء فيه المسيحُ وأعلن أنّ الساكنَ في السماوات والسيّدَ وربَّ الجنود ووإلهَ السماوات هو الأبُ الحنون الذي يحبّ أبناءه ويعتني بهم.
في عظته على الجبل، أشار الربّ يسوع إلى إسم “الآب” 17 مرّة داعيًا إيّانا للصلاة إلى الله باعتباره الآب. فلفظة “أبانا” تدلّ على الأبوّة والمحبّة والصلاح والعناية والمرافقة والإهتمام. أمّا عبارة “الذي في السماوات” فإنهّا تدلّ على القوّة والإمكانيّة والرفعة والسلطان والعظمة: إنّه أبٌ لا نظير لمحبّته، وإلهٌ لا حدود لقوّته وإمكانياته.
لقد دعا الربّ يسوع سامعيه إلى أن يرفعوا صلواتهم، لا إلى قديسٍ أو ملاك، ولا إلى إلهٍ جبّارٍ مستبدٍّ وأنانيّ، بل إلى الله الآب: الأب والحنون والمحبّ الذي يعطي البركة والخير والسند لجميع أبنائه.
إنَّ العبارة الأولى للصلاة الربيّة هي استدعاءُ الله من السماوات: “أبانا الذي في السماوات”.أولاً: الله هو “أبانا”: بهذه الافتتاحيّة نسمي الله أبًا، وهكذا نعبّر إيمانيًّا أنّه لدينا أبٌ ولسنا أيتامًا. والله أبونا سيُلبّي كلّ مطالِب الصلاة بإيمانٍ لا يتزعزع، لأنه أبٌ لا يحرم أبناءَهُ من خيراته عندما يطلبونها بإيمان: “أيُّ إنسانٍ منكم يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا؟ أو يسأله سمكةً فيُعطيه حيّة؟ فإذا كنتم، أنتم الأشرار، تعرفون أن تُعطوا أولادكم عطايا صالحة، فكم بالأحرى أبوكم الذي في السماوات يمنح الصالحات للذين يسألونه” (مت7: 9-11). نُسمِّي الله أبًا معترفين بالتبني الإلهي، أي مستحقين أن نكون أبناءً لله بالنعمة.
أنْ نكون أبناءً لله، هذا يعني أنّ كلَّ خيرات الله التي سنحصل عليها من خلال يسوع المسيح، إبن الله الوحيد بالولادة، ستربطنا بعلاقةٍ أخويّةٍ معه.
أنْ نكون أبناءً لله، هذا يعني أيضًا أنّنا سننال موهبةَ الروح القدس، روحِ الله أبينا، ونسمع صوتَه يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت”.
أنْ نكون أبناءً لله، هذا يعني أنّنا في شركةٍ دائمةٍ مع الثالوث الأقدس. بالحقيقة عندما نسمي الله أبًا، فهذا يعني أنّنا في حالة انتماءٍ وحياة، مع مصدرِ الحياة وصانعِها ومُعطيها.
لقد دعانا الربّ يسوع في هذه الصلاة إلى أن نقول أبانا، أي بصيغة الجمع، ليَدُلَّ على أنّنا والآخرين إخوةٌ، تجمعنا قرابةٌ روحيةٌ نتساوى بها جميعًا كبشرٍ أمام الله الآب.ثانيًا: الله في السماوات: أمّا العبارة الثانية “في السماوات”، فهي تدّل على أنّ أبانا موجودٌ في السماوات. وباعترافنا أنّ الله يسكن في السماوات، نُبعِدُ أذهاننا عن الأرض والأرضيّات ونحدِّق في السماوات والسماويّات، لنرى موطنَنا الحقيقيّ حيث بيتنا الأبوي موجود فيه. نحن غرباء على هذه الأرض ونزلاء. هدفُنا هو السماء، تلك الحياة المتألِّهة والمقدَّسة والمعتَقَة من الخطيئة والأهواء والموت.
إنَّ عبارة “أبانا الذي في السماوات” ترفعُ أذهانَنا إلى أبينا وبها نهتدي إلى وطننا الحقيقي. إنّها توّجهُ ذهنَنا وترشدُه إلى وطننا وتجعلُنا نرغَب بالوطنِ السماوي حيث نرى مجدَ الآب السماوي ومجدَ ابنه الوحيد وجميعَ الأبرار والصديقين.2- لتكُن مشيئتُك / ولا تُدخلنا في التجربة لكن نَجِّنا من الشريرإنّ تَحقِيقَ مشِيئة الله الآب مرتبطٌ إرتباطًا وثيقًا بعَدَم الدخُول فِي التجربة. فالربُّ يسوع نفسه، في ليلة آلامه في بستان الزيتون، حَقَّقَ مشيئةَ الله بعدم وُقُوعه فِي التجرِبَة، وتُشير إلى ذلك الأناجيل الإزائيّة الثلاثة: “وابتعد عنْهم قَليلاً فَأَكَبَّ على وجهه يُصلِّي قائلاً: يَا أَبي، إِنْ أَمْكَن، فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن، لا كما أُريد أنا، بل كما أنت تريد… ثُمَّ ابتعد ثانيةً وصَلَّى قَائِلاً: يَا أَبي، إن لم يكن ممكنًا أن تعبر عني هذه الكأس دون أن أشربها، فَلْتَكُنْ مَشِيْئَتُكَ… فتركهم وابتعد عنهم ليُصلّي مرّةً ثالثة، مردِّدًا الكلام نفسه” (مت26: 39، 42، 44)، “أبّا، أيها الآب، كلّ شيءٍ ممكنٌ لديك، فأبعد عني هذه الكأس، ولكن ليس ما أريد أنا، بل ما أنت تريد… تمّ ابتعد ثانيةً وصلّى مردّدًا الكلام نفسه” (مر14: 36، 39)، “أبت، أن شئت، أبعد عني هذه الكأس، ولكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتك” (لو22: 42).
تعرّض يسوع في هذه الليلة لأنواعٍ كثيرةٍ من التجارب لكي يكُفَّ عن إتمام تدبير الله الخلاصيّ. فإبليس نفسه الذي جربَّه في البرية بكلّ تجاربه، ولم يقدر عليه، إبتعد عنه إلى حين (لو4: 13). لقد كان بستانُ الزيتون هو البرية التي عاد إبليس إليها لكي يُجرِّب يسوع ويثنيه عن إتمام مشيئة الله، ألا وهي الآلام والموت والقيامة، والتي منها يتمّ الخلاص للبشريّة جمعاء. إنتصر يسوع على التجربة ولم يقع بها محقِّقًا بذلك مشيئة الآب السماوي وتدبيره الخلاصيّ. لقد رأى آبَاءُ الكنيسة في هذه الطلبة سرَّ المعمُودِيَّة التي به يُكْفَرُ بالشيطان، بأعمالِه، بأفكارِهِ وبكلامِه. ونحن أيضًا بابتعادنا عن التجارب نُتَمِّم مشيئة الآب السماوي ونُتَمِّم أيضًا مواعيد عمادنا المذكورة.3- ليأتِ ملكوتُك / واغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر أيضًا للمذنبين إليناإنَّ مجيءَ ملكوت السماواتِ مُرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بِمغفرةِ الخطايا والتوبة: “توبوا فقد اقترب ملكوتُ السماوات” (مت3: 2). على الجلجلة، صُلِبَ يسوع بين لصَّين. أحدُهما بدأ يُجدِّف عليه ويقول: ألست أنت المسيح؟ خلِّصْ نفسك وخلِّصنا. فأجاب الآخر وانتهره قائلاً: أما تخاف الله وأنت تحت هذا الحكم نفسه؟ فنحن بعدلٍ حُكِمَ علينا، لأنَّنا نلقى ما تستوجبه أعمالنا. أمّا هذا الرجل، فلم يفعل شيئًا سيّئًا. ثمّ قال ليسوع: أذكرني يا يسوع عندما تأتي في ملكوتك، أي إرحمني يا ربّ واغفر لي. فقال له يسوع: “الحقّ أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس”، أي في الملكوت (لو23: 39-43).
نلاحظ أنّه إمعانًا في السخرية من ملك اليهود، صلبوه بين لصَّين: واحدٌ عن يمينه والآخر عن يساره، فتمَّت به نبوءة النبيّ آشعيا: “بذَلَ للموت نفسه وأُحصِيَ مع الأثمة، وهو الذي شفع فيهم وحمل خطايا كثيرين” (أش53: 12). لقد حمل المسيحُ نفسُهُ اللصَّ من الصليب إلى الفردوس ليُظهِرَ أنّ التوبة ومغفرة الخطايا لن تتأخرا في عملهما، فحوَّل بذلك موتَ الخاطئ إلى شهادة. لم نعُدْ بعد اليوم نخجل من أنْ نأخذ هذا اللصَّ معلِّمًا لنا في التوبة والندامة وغفران الخطايا ودخول الملكوت. فالربُّ بذاته لم يخجلْ منه بل أدخله الفردوس والملكوت قبل الجميع. لقد اعترف هذا اللصُّ بالمسيح فندم وتاب على كلّ ما اقترفه من خطايا، وتجرّأ أن يطلب الغفرانَ والدخولَ إلى الملكوت مع أنَّه لصٌّ خاطئ، فوجد أنَّ أبوابَ الفردوسِ مفتوحةٌ أمامه.
حتى في آلامه التي جلبت الخلاص والملكوت للعالم كلِّه كان بين لصّين. واحدٌ رفض التوبة مُبقيًا ذاته في الشرّ، ناطقًا بكلماتِ التجديف، فخسر الملكوت. وآخَرٌ أخذ اتّجاهًا مُعاكسًا يستحقّ الطوبى، إذ آمن بيسوع وهو يذوقُ أمرَّ العذابات، منتهرًا صرخات اليهود العنيفة وتجديف من صُلِبَ معه. إعترف بذنبه “لأنّنا نلقى ما تستوجبه أعمالنا”، أعلن براءة المسيح “أمّا هذا الرجل فلم يفعل شيئًا سيّئًا”. وبّخ عجزَ اليهود عن حبّ الله، دانَ حكم بيلاطس، أعلن مجد يسوع، فنال بذلك الغفران واستحقّ الدخول إلى الملكوت.
لقد غفر له الربُّ سريعًا، لأنّ اللصَّ تاب وآمن بالمصلوب. طلبَ أنْ يذكرَه، أمَّا الربُّ فأجابه بفيض: “اليوم تكون معي في الفردوس”، لأنّ الحياة هي أن تكون مع المسيح، وحيث يكونُ المسيح يكونُ فردوسُه ويحلُّ ملكوتُه. ونحن أيضًا علينا أن نُدرِكَ أنّه بدون غفران لن نرى الملكوت. غفرانُ الرب لنا وغفران بعضنا لبعض.

4– ليتقدَّس اسمُك / أعطنا خبزنا كفاف يومنا

إنَّ كُلَّ الطِّلبَاتِ التي ذكرنا سابقًا، أيْ عدمَ الدخولِ في التجربةِ ومغفرةِ الخطايَا، هي روحيَّةٌ، فلا يمكنُ إذًا أنْ تكونَ هذه الطَِّلبَة، مَنحَ الخبزِ الجوهريّ، مادِّيَّة أيِ الخبزِ الذي يُؤكَلُ يوميًّا. إذًا، فهذا الخبزُ هو سماويّ.
يقول القديس أغسطينوس: “لماذا تسألون من أجل تقديس اسم الله؟ أنَّه قدُّوس، فلماذا تسألون القداسة لمن هو قدُّوس أصلاً؟ إنَّكم إذًا تسألونه ذلك وتطلبون، لأجل الله وليس لأجل صالحكم؟ لا، إفهموا هذا جيِّدًا، وهو إنَّكم تسألون هذا لأجل أنفسكم. إنَّكم تسألون من هو قدُّوس في ذاته دائمًا أن يكون مقدَّسًا فيكم”. فكلمة “ليتقدَّس” تعني أن يتقدَّس إسم الله فينا ولا يُحتقر. فما نطلبه هو لخيرنا، لأنَّنا إن احتقرنا إسمَ الله نصير نحن أشرارًا ويبقى الله قدّوسًا.
وفي نظر القديس كيرلّس، إنَّ الله ليس محتاجًا إلى مزيد من القداسة منا، إذْ هو كُليّ القداسة ومانح القداسة للخليقة. إنّ معنى “ليتقدس اسمك” في رأيه هو ليت اسمك يُحفظ مقدّسًا فينا، في أذهاننا وإرادتنا. وإنَّ من يُصلِّي قائلاً “ليتقدس اسمك”، فهو يطلب لنفسه ذهنًا مقدَّسًا وإيمانًا عميقًا، لكي يشعر بأنّ اسم الله مكرَّمٌ وقدُّوس. فالتقديس هو مصدر الحياة وسبب كل بركة.
يتقدَّس إسم الله فينا من خلال سرّ المعموديَّة. وما صلاتنا “للأبانا” وذكر هذه الطلبة بعد العماد إلاَّ لكي يبقى إسمُ الله مقدَّسًا فينا إلى الأبد. ولكن كيف يبقى إسم الله مقدَّسًا فينا بعد المعموديّة؟ إنَّ الربّ يسوع في ليلة آلامه أعطانا سرَّ الإفخارستيا، سرَّ القربان المقدَّس والخبزِ السماوي، لكي يبقى إسم أبيه مقدَّسًا فينا وبواسطتنا مع العلم أنّ اسمَه مقدَّسٌ منذ الأزل وإلى الأبد. ولهذا، يُصبح تقديسُ الإسم مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بِمنح الخبز الجوهري، أي القربان المقدَّس (سرّ الإفخارستيّا). وتأتي الإفخارستيا لتُتَوِّج المعموديّة فيبقى إسم الهي مقدَّسًا على الدوام.
إنَّ الخبزَ الجوهريَّ أو الخبز الشكراني، جسدَ المسيحِ ودمَهَ الإلهيين هو أسمى من المَنِّ الذي أكله اليهود في الصحراء وماتوا. أنّه الخبز الحيّ والمحيي الذي نزل من السماء ليقدِّس ويحيي من يتناوله ويعطيه الحياة الأبديّة. هو جسدُ المسيح ودمُهُ، تلك النعمة التي وهبها الله لنا بشخص ابنه الوحيد ربّنا يسوع المسيح في عشائه الأخير مع تلاميذه: “خذوا كُلوا هذا هو جسدي… خذوا اشربوا هذا هو دمي… إصنعوا هذا لذكري ” (راجع لو22: 14-20). لقد حددّت الكنيسةُ صلاةَ الأبانا في القدّاس الإلهي قبل وقتٍ قليلٍ من المناولة الإلهية لجسد المسيح ودمه. كما حدّدت أيضًا أن نصلّي صلاة أُخرى قبل المناولة مباشرةً: “أهلنا أيها الربّ الإله أنْ تتقدَّس أجسادنا بجسدك القدّوس وتتنقّى نفوسنا بدمك الغفور…”. كلُّ هذا يعني أنّ تناولَ جسد الربِّ ودمه يكفينا ويُحيينا ويقدِّسنا ويجعلنا على مثال الله مقدَّسين في الحق مرمِّمين صورة الله فينا بعد أن شوّهناها بخطايانا وأفعالنا السيّئة. إنَّ الله يتبارك ويتقدَّس في قدّيسيه، وكلّما اتّحد جسدنا الفاني بجسد المسيح الحي، زادت قداستنا وزادت قداسة الله فينا وتحقّقت صلاتُنا ونلنا الخلاص.

في الختام، إنّ صلاة الابانا ليست مجرد صلاة نرفعها إلى الله لكي ننال بواسطنها الخير والبركات. بل هي صلةٌ وتواصلٌ ودستورُ حياةٍ وجَبَ على كلِّ مصلِّيها أن يعيشوا مفاعيلها. فتحقيقُ المشيئة وعدم الدخول في التجربة تطالُ حياتي الذاتيّة والشخصيّة. أنْ أُحقِّق مشيئة الله بعدم وقوعي في التجربة لهو أمرٌ شخصيٌّ وذاتيٌ أبني به علاقةً مع ذاتي ملؤها الإحترام وتقديس الذات.
أمّا مجيءُ الملكوت ومغفرةُ الخطايا فتطالُ علاقتي مع الآخر مع أيِّ إنسانٍ قريبًا كان أم بعيدًا. أنْ أطلب دائمًا مجيء ملكوت الله في حياتي بمسامحة وغفران من خطئ إليّ لهو انطلاقةٌ نحو الآخر في علاقةٍ صحيحة ملؤها المحبة والتضحية والوفاء، أقدِّسُ بها الآخر وأدعوه إلى الخلاص.
وأخيرًا، إنَّ تقديسَ الإسم بتناول الخبزِ الجوهريّ تطالُ علاقتي مع الله بشكلٍ مباشر. أنْ اُقدِّسَ إسم الله في حياتي وكياني الإنساني بتناولي جسد الربِّ ودمه لهو غَوصٌ في علاقةٍ مع الله ملؤها الإيمانُ والورعُ والتقوى، أُقدِّسُ بها اسمه في كلّ ما وهبني من حكمةٍ وقامةٍ ونعمة، وفي كلّ وزنةٍ جاد بها عليّ.
وفي النهاية، إنّ صلاةَ الأبانا هي صلةٌ وتواصلٌ في أبعادٍ ثلاثة: صلةٌ مع الذات، وتواصلٌ مع الآخر، وحَجٌّ إلى الآب للغَوصِ في سرِّ تدبيره الخلاصي.
فيا أبانا الذي في السماوات، نحبُّك ونشكُرُك ونمجِّدُك من الآن وإلى الأبد آمين.

القوي والضعيف في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل روما

القويّ والضعيف في رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل روما
الخوري جبرائيل شعنين
جاء في سفر أعمال الرسل أنّه في اليوم الخمسين للقيامة حضر إلى أورشليم يهودٌ أتقياء مِنْ كلِّ أمّة، ومِنْ بينهم رومانيّون مستوطنون يهود ودخلاء (راجع رسل2: 5، 10). هؤلاء الرومانيّون قبلوا الإيمان بالسيدِ المسيح وعادوا من أورشليم إلى روما يكرزون بين إخوتهم اليهود. لقد آمن عددٌ ليس بقليلٍ من يهود روما بالسيد المسيح، سواء كانوا يهودًا من أصلٍ عبرانيٍّ أم دخلاء مِنَ الأمم، كما آمن أيضًا بعض الأمميّين الوثنيين المثقفين. وكان يلزم أن يلتقيَ الجميعُ بوحدانيّة الروحِ كأعضاءٍ في جسدٍ واحد. لكنَّ اليهودَ بتربيتهم المتزمّتة، وتعصبهِمِ الشديد لجنسهم وثقافتهم وفكرهم الديني، لم يقدروا أن ينزعوا أنفسهم بسهولةٍ عن شعورهم بالامتياز عن غيرهم، حتى بعد قبولهم الإيمان المسيحي. لقد استخفوا بالأمميِّين المتنصرين تحت ذريعةِ أنّهم أبناءُ إبراهيم وأصحابُ الوعد ومستلمو الناموس الموسوي دون سواهم. فهم بالتالي شعبُ الله المختار وحدهم. إنطلاقًا مِنْ فكرهم هذا، تأصل فيهم الكبرياء عن عدم فهمٍ للبنوّة لإبراهيم ولا غاية الناموس ولا معنى اختيار الله لشعبه. فظنّوا أنّهم حتى بعد قبول الإيمان بالمسيحِ المخلِّص يبقون في مرتبة أسمى وأعلى.
في المقابل وأمام هذا الواقع، أخذَ بعضُ الأمميّين المتنصِّرين موقِفًا مضادًّا كَرَدِّ فعلٍ للفكرِ اليهوديّ، فنظروا لليهودِ كشعبٍ جاحدٍ أُغلقَ البابُ بالنسبَةِ إليهم لينفتحَ لهم على مصراعيه، الأمر الذي عرَّضهم هم أيضًا للكبرياء.
خلال هذه الظروف، جاءتْ رسالةُ بولس إلى أهلِ روما مُوجَّهَةً إلى الطرفين لتعالِجَ قَضَايَا إيمانيّةٍ حيَّةٍ وسلوكًا روحيًّا إيمانيًّا يَمَسُّ حَيَاةَ الكنيسة عبر الأجيالِ كلِّها. لقد دلَّت هذه الرسالة على شموليّةِ الخلاص وأنَّ البابَ قد انفتحَ للجميع سواءً كانوا يهودًا أم أُمميّين مِنْ خلال الإيمان الحيِّ العاملِ بالمحبة. لقد قَدّم لنا بولسُ الرسول بوحي الروح القدس مفهومَ الإيمان وارتباطه بالخلاص، كما كشف لنا عن قلبه الرسولي المتفجِّر بالحبِّ نحو المسيح ونحو البشريّة كلِّها التي مات المسيحُ على الصليب مِنْ أجلها. وفي نفس الوقت، عالج مشكلةَ الكبرياءِ سواء في حياةِ اليهودِ أو الأمم. لقد مَسَّتْ هذه الرسالة إيمانَ الكنيسة وعَبَّرَتْ عنِ الحياة الإنجيلية بِدِقَّةٍ بالغة، فَدُعِيَتْ هذه الرسالة “إنجيل بولس”.يفتَتِحُ بولسُ رسالتَهُ هذه بتوجيهِ التحيّة والمديح إلى كنيسةِ روما على إيمانهم، ويذكُرُ الفكرةَ الأساسيّةَ في الرسالة، وهيَ أنَّ بشارةَ يسوعَ تُظهِرُ كيف يبرِّرُ اللهُ الإنسانَ بالإيمانِ وحدَهُ، أيهوديًّا كان أم غيرَ يهوديّ. فالبشرُ كلُّهُم في حاجةٍ إلى التبرير، لأنّهم جميعًا تحت سلطانِ الخطيئة. وهذا لا يكونُ إلاَّ مِنْ عندِ الله بيسوعَ المسيح.
يصفُ بولسُ، في هذه الرسالة، الحياةَ الجديدةَ في المسيح. هذه الحياة التي يَنعَمُ بها كُلُّ مَنْ برَّرَهُ اللهُ بالإيمان، فيحيَا في سلامٍ مع الله، ويتحرَّر بالروحِ القدسِ مِنْ سلطانِ الخطيئةِ والموت. ثمّ يتحدّثُ عَنْ غايةِ شريعةِ الله وقوّةِ روحِ الله في حياةِ المؤمن، فيتصدّى لمسألةِ انسجامِ اليهودِ وغير اليهودِ مع تدبيرِ اللهِ للبشر. ويخلُصُ بعدها إلى الإعلانِ بأنَّ رَفْضَ اليهودِ للمسيحِ هو جزءٌ مِنْ تدبيرِ الله، ليجعلَ نعمةَ اللهِ في المسيحِ يسوعَ في متناوَلِ جميعِ البشر، ومنهم اليهود الذين لا بُدَّ لهم يومًا ما مِنَ الإيمان بالمسيحِ يسوع. وفي النهايةِ، يُبَيِّنُ بولسُ كيف يجبُ أنْ تكونَ الحياةُ المسيحيّة، مشدِّدًا على المحبّة التي يجبُ أنْ تَربُطَ جميعَ الناسِ بعضهم ببعض.
لقد قسَّمَ بولسُ رسالتَهُ إلى أهل روما إلى قسمَين أساسيَّين. قسم أولّ لاهوتيّ تعليميّ (1-11) وقسم ثاني أدبيّ وعمليّ (12-16).
لقد أظهر في القسمِ الأوّل، وبشكلٍ واضِح، شقاءَ الإنسانِ وخلاصَهُ. فاتَّبَعَ أُسلُوبًا خاصًّا في الشرح، أعلَنَ فيه بأنَّ الإنجيلَ هو قوّةُ خلاصٍ لكلِّ مؤمن. ثمّ وَسَّعَهُ في أربعِ مراحل مُتتالية، شارحًا في كلِّ مرحلة، في لوحين سلبيٍّ وإيجابيّ، الضعفَ والشقاءَ بدون الإنجيل، في لوح، والقوّةَ والخلاصَ بالإنجيل، في لوحٍ ثانٍ على الشكل التالي:
– شقاءُ الوثنيّين واليهود بدون الإنجيل (1: 18-3: 20).
– خلاصُ الجميعِ بالإنجيل (3: 21-5: 11).
– شقاءُ الإنسانِ المتضامنِ مع آدم (5: 12-21).
– خلاصُ الإنسانِ المتضامِنِ ويسوع، آدم الثاني البار (6: 1-23)
– شقاءُ الإنسانِ في قيد الشريعة (7).
– خلاصُ الإنسان المؤمنِ السالكِ في نعمة الروح القدس (8).
– شقاءُ إسرائيل الرافض للمسيح (9-10).
– خلاصُ إسرائيل المؤمن بالمسيح (11).
مِنْ هنا يظهر، بحسب بولس، ضعفُ وشقاءُ الإنسانِ المتمسِّكِ بالشريعةِ الموسويَّةِ والبعيدِ كُلِّ البُعدِ عَنِ المسيحِ وتعليمِه. كما تتجلَّى بالمقابلِ قوَّةُ المؤمِنِ وخلاصُهُ مِنْ خلالِ التمسُّكِ بالمسيحِ وإنجيلِه، شريعةِ العهدِ الجديد.
لقد ظهر جليًّا موضوعُ القويِّ والضعيف في هذه الرسالة وخصوصًا في الفصلين الرابع عشر والخامس عشر. فشدَّد بولس على التعايُش الأخويّ بين فئة “الأقوياء” وهم المؤمنون مِنْ أصلٍ وثنِيّ، متحرّرون ينعمون بحريّة الضمير، وفئة “الضعفاء” وهم المؤمنون مِنْ أصلٍ يهوديٍّ، يَرَون واجب المحافظة على الممارسات القديمة، وروزنامة الأعياد الخاصّة، والإمتناع عَنْ أكل اللحم وشرب الخمر والإكتفاء بأكل البقول والتمييز بين الطاهر والنجس. لقد كان البعضُ يخشى في أكل لحم الخنزير أو الجمل كَسْرًا للناموس، وإذْ كان ضميرهم متشكِّكًا تظاهروا بالصوم والتقشف فامتنعوا عن أكل اللحوم بالكلية. بينما أدرك آخرون أنهم في المسيح يسوع نالوا الحرية من الطقوس الحرفية، فصاروا يأكلون اللحوم أيًّا كانت. لقد دخل الإثنين في صراعٍ فكريّ ومناقشات أظهرتْ بشكلٍ واضحٍ كبرياءهم الذي أبعدهم كلّ البعد عن فهمٍ حقيقيٍّ لسرِّ المسيح. لم يرد بولس أن يدخُلَ في هذا الصراع معتبرًا أنَّ أمْرَ الأكْلِ أتفهٌ مِنْ أن يشغلَ فكرَ المسيحيين ووقتهم. لقد كَشَفَ بذلك ضعفَ الضعفاءِ الذين يتشككون بسبب طول ممارساتهم للشريعة الموسوية ويصعب عليهم التخلص منها. كما هاجم في الوقت نفسه الأقوياء الذين يزدرون إخوتهم الضعفاء ويحتقرونهم لأنهم امتنعوا عَنْ أكل اللحوم لتشككهم.
لقد شدَّد بولس الرسول على تقبُّلِ الضعفاء في إيمانهم، داعيًا كلَّ مسيحيٍّ مؤمنٍ لأنْ يترفقَ بأخيه الضعيف في الإيمان فيسنده بروح المحبّة لا الإدانة حتى يسيرَ الكُلُّ في طريق الخلاص. إنَّ المسيحيّ مدعوٌّ برأي بولس لكي يتركَ صغائر الأمور ويلتفت لما هو للبنيان لا لِمُحاكمة وإدانة الأفكار، لأن الدينونة هي عملُ الله. لكنَّ هذا الكلام لا ينطبق على العقائد، فمَنْ يعلِّمُ تعليمًا مناقضًا للإيمان، يجب أن تقاومه الكنيسة. لقد خضع بولسُ القويُّ بنفسِهِ لهذه الأمور فختن طيموتاوس ليربح الضعفاء، وصار لليهود كأنّه يهوديٌ ليربح اليهود (راجع 1قور9: 19-22).
لم يهتمّ بولسُ يومًا بأن يلتزمَ المؤمنُ بيومٍ أو بنوعٍ مِنَ الأطعمة أم لا. والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ أهلَ روما كانوا حديثي الإيمان، فلا يريد أن يربكَهم إلى أن يحضرَ هو بنفسه ويعلِّمَ التعليم الصحيح الذي يرفعهم فوق مستوى الشرائع اليهودية. كما أنَّه لا يريد أن يجعلَهم يتشككون بسبب ماضيهم في الإيمان، آخذًا في الإعتبارِ أنَّ مَنْ أصله يهوديّ سيعاني مِنْ ضغوطِ ضميره بسبب نشأته. وأمَّا بالنسبة للذين هم مِنْ أصلٍ أمميٍّ وثنيّ، فقد كانوا فريسةً لبعض المعلمين المتهودين الذين كانوا ينادون أولاً بالممارسات اليهودية كوسيلة أولى للخلاص. هؤلاء هاجمهم بولس كما فعل مع أهل غلاطية وقولسي.
لقد نال المؤمنُ والقويُّ في إيمانه بالمسيح الحريةَ مِنَ الطقوسِ الحرفية. فبدأ يأكل بلا ارتيابٍ مؤمنًا أنَّ الربَّ يسوع لم يمنع الأكل، لأن الأكل بحدِّ ذاتِهِ لا ينجِّس، إنَّما النجاسة تنبع من داخل الإنسان (راجع مت15: 11).
لقد خاف الضعيف في الإيمان من أكل لحومٍ قد تكون محرَّمَةً كالخنزير، أو قُدِّمَت لأوثانٍ خوفًا مِنْ مخالفةِ الشريعة فكان يأكل البقول. رأى البعض في هذا العمل تزمتًا وأفكارًا ضيّقةً وإيمانًا متحجّرًا.
أمام هذا الواقع، حذّرَ بولسُ القويَّ أوّلاً مِنْ الشعور بالقوةِ واحتقار الضعيف، كما حذّر أيضًا الضعيفَ مِنْ دينونة القويّ الذي يأكل ما يريد، لأنّ الله يقبل هذا وذاك ولا يميّز بين الإثنين. فالربُّ وحدُهُ هو سيّدُ الجميع ونحن كلّنا أبناؤه. فلا يظنَنَّ أحدٌ أنَّ الله لن يقبلَ الذي يتصرف بحرية أو سوف يرفض من يتشكك. لكنَّ الله قادرٌ أن يثبِّتَ الواحدَ في نزاهته والآخرَ في راحة ضميره.
لقد دعا بولسُ كُلَّ وَاحِدٍ منهم إلى البقاء عَلى يَقِينِهِ في رأْيِهِ الخَاصّ، فيُحَكِّموا ضمائرهم وعقولَهم في هذا الأمر وذاك، ويتخذوا قراراتهم دونَ إرتيابٍ أو تشككٍ بحسبِ قناعاتهم.
بدلاً مِنْ أنْ ينشغلَ الرومانيّون المسيحيّون بإدانة بعضهم البعض، رفع بولس الرسول نَظَرَهم إلى الربِّ يسوع ليشكروا الله الآب على جميع عطاياه. لقد أوضح لهم أنّ الذي يهتمُّ بيوم السبت، يُكرِّمه لأنّه يعتبره يومًا أقدس من باقي الأيام. إنّه يحترمُ السبتَ ويقدسُهُ لأنّ الله أمَرَ بهذا. فهو يمجّد الربّ في هذا العمل. والذي لا يهتم بالسبت أو بغيرِهِ شاعرًا بأن المسيح حرَّره من هذه الطقوس، فهو لا يهتمّ، لأنه يمجدُ الرب ويهتمُّ بأمره. والذي يأكل، يشكر، لأنَّه يشعرُ أنَّ الرب أعطاه الحرية ليأكل كل شيء. والذي لا يأكل، يشكرُ أيضًا على باقي الأطعمة والبركات التي أعطاها الله له.
في حكمةٍ عجيبة سحب الرسول بولس الطرفين من النقاش ليرتفع بفكرهم فوق محيط الأكل والشرب والأعمال الزمنيّة التي تختص بهذا الزمن، إلى أفقٍ أعلى إيمانيًّا وحياتيًّا. لقد سما بالإيمان المسيحيِّ فوق أعمال هذا الزمان ليضعَ الإنسانَ المسيحيَّ في وضعه النهائيِّ مع المسيح الذي يحتضن الجميع في شخصه. فالحياة كلُّها ينبغي أن تكونَ لأجل المسيح، سواء أكانت حياةً ماديَّةً أم روحيّة. إنَّ الحياة ما وُهِبتْ إلاَّ لكي نمجدَ المسيحَ ونعملَ مشيئتَه. والموتُ ما وُجِدَ أيضًا إلاَّ لكي نذهبَ به إلى المسيح. الله خَلَقَنَا لأعمالٍ صالحةٍ نمجد الله بها، وبعد أنْ نُنْهِيَ أعمالَنا نموتُ لنبدأ حياةً جديدةً مِنْ نوعٍ آخر، حياةً نسبحُ فيها المسيح ونمجدُهُ بطريقةٍ أُخرى (راجع 2قو5: 14-15). ما عدنا نحيا بعد الآن كما نريدُ وَبِحسبِ شهواتنا وملذّاتنا، وما عدنا نخاف الموت. فَالمسيح مات وقام لكي يهبنا الحياة، ونحن أنفسنا مدينين له بحياتنا سواء في وجودنا في هذا العالم الحاضر أو في انتقالنا منه. لم نعد مُلكًا لأنفسنا بل أصبحنا مُلكًا له. لقد صارت إرادةُ المسيح قانونًا لنا ومجد المسيح هدفًا لنا، فنعيشَ ونموتَ ونُستشهدَ لكي نمجدَهُ في كلِّ تصرفات حياتنا. المسيحُ جمع في شخصه كلَّ خطوط الحياة والموت. والمسيحيَّةُ الحقَّةُ هي التي تجعل المسيحَ الكُلَّ في الكل. إذًا، ما دمنا للمسيح سواء أحياء أو أموات، فيجب علينا أنْ نعملَ كلَّ أعمالنا من أجل الله وليس لأجل ذواتنا أو للعناد، لأنّنا لسنا لذواتنا بل لله.
لقد مات المسيح وقام لكي يكون مَلِكاً على الكل (راجع أف1: 20-22). فكيف نزدري إذًا بمن هو واحد معنا في المسيح، والمسيحُ يملكُ على كلِّنا. إنْ كان المسيحُ مات وبذل نفسه لأجل البشر، فكيف نُحزنُ نحن ذاك الذي مات المسيح مِنْ أجله. إن كان المسيحُ مات ليقبلَ الكُلّ، فهل نرفُضُ نحن الناسَ لأنهم يأكلون أو لا يأكلون. فالمهمَّ إذًا هو ربحُ النفوس، وهذا ما يريده المسيح. وعلينا أن ننشغل بمنْ مات وقام فداءً عنّا عِوضًا عن انشغالنا بالإدانة لأنّها تفسد أعماقنا إذْ تحملُ ازدراءَ الإخوَة عوضًا عن اتِّساعِ القلب لهم، وتسيءُ لله بكونه هو الديان الذي يخضع له الكل، وتعثرُ كذلك الآخرين.
سنقف كلُّنا يومًا ما، يقول بولس، أمام كرسيِّ المسيح. لذلك علينا ألاّ نزدريَ أحدًا ولا ندينَ أحدًا لأنَّ المسيحَ وحدُهُ هو الدّيان. وكلُّ ركبةٍ ستجثو للمسيح لأنّ المسيح هو الله. فلنفكّر إذًا بلحظةِ وقوفنا أمام كرسيِّ الربّ عوضًا عن الإنشغال بإدانة الناس. ولنفكرْ أيضًا باليوم الذي سنُدانُ فيه أمام الله عوضًا عن أن ننشغل بإدانة بعضنا البعض. فكلٌّ منّا سيُعطي حسابًا لله عن نفسه وليس عن الآخرين. وعلى هذا أيضًا، لنمتنع عن محاكمة بعضنا البعض، لأن محاكمة الآخرين تضع أمامهم معطلات وعوائق تكون لهم حجر عثرة.
يظهر بولسُ في هذه الرسالة وكأنّه يريد أنْ يجمعَ الإثنين معًا. يقف أوّلاً في صفِّ اليهوديِّ المتنصّرِ الذي تربى ضميرُهُ مِنْ خلال الناموس على اعتبار أنَّ بعضَ الأطعمةِ نجسة. إنّه لو أكل منها تكون له نجسةً فعلاً لأنّه يخالف ضميره. ويقفُ أيضًا في صفِّ الأمم الأقوياء بالإيمان، لأنّه لا يوجدُ شيءٌ نجسٌ في ذاته.
إنَّ المحبة برأي بولس هيَ أهمُّ بكثيرٍ جدًّا مِنَ الاقتناع بأنْ أكلَ اللحم المحلَّلِ يكون سببَ عثرةٍ للآخرين. فإذا كان تناولُكَ لبعض الأطعمة يسبِّبُ حزنًا لأخيك، أو قد يظنُّ السوءَ بك ويتشكّكُ في أنك تهين عقيدتَهُ فيهلكَ بسبب ضعفه، أو يقلّدُكَ ويأكلُ مما يعتبره هو نجسًا ويخالفُ ضميرَهُ فيهلك، فإنك بهذا لا تسلك بعد بما يتفق والمحبة، لأنك تظلُّ تتناولُ مِنَ الأطعمة وتتسبَّبُ في حزن أخيك الذي مات المسيح لأجله. فأنت بهذا الفعل تهلكُ نفسًا مات المسيح لأجلها. فإنْ كان المسيحُ قد قدَّم نفسَهُ لأجل أخيك، أفلا تقدِّمُ أنت ما هو أقلّ وتتركُ طعامًا. لقد نفَّذَ بولسُ نفسُهُ هذا المبدأ، فَمَعَ أنَّه غير مقتنع بالختان إلاَّ أنّهُ ختنَ طيموتاوس حتى لا يعثرَ اليهودُ الذين يخدم طيموتاوس في وسطهم.
إنَّ أفكارَكَ ومعتقداتِكَ عَنِ الأكل بِحرِّيةٍ هي معتقداتٌ صالحة، ولكنَّ أخاكَ الضعيفَ سيتعثَّرُ فيك ويَفْتَرِي عليك ويتكلمُ عليك بالسوء. نحن لن نستطيع أن نمنعَ الافتراء، ولكن علينا ألاَّ نكون سببًا فيه. فحين يملِكُ الله على القلب ويخضعُ الإنسانُ خضوعًا قلبيًا لسلطان الله، لن يهتمَّ الإنسانُ حينئذٍ بالأكل والشرب، ولن نفرحَ بسبب أكلاتٍ أو أشربةٍ معينة، ولن يكونَ امتناعُنا عنها سببًا في أن نفقدَ فرحنا. فنحن في ملكوت الله نحيا مع المسيح حياةً سماويةً، ويملأنا الروح القدس فيعطينا أن نحيا في برٍ وسلامٍ وفرحٍ. ونصنعَ البِرَّ فيمتلئ القلبُ سلامًا وفرحًا.
مَنْ عاش خادمًا للمسيح وصانعًا برًّا وقلبه مملوءٌ محبّةً وسلامًا وفرحًا، فهو مرضيٌّ عند الله ومزكي عند الناس الصالحين ومشهودٌ له بالنجاح في الاختبار. فلا بنيان للكنيسة دون محبة، ولا تثبيت لعمل الله دون سلام. فليحتمل القويُّ والضعيفُ بعضَهما حتى تُبنى الكنيسة.
إنَّ منازعات الإنسان تهدم ما يقومُ به الله مِنْ عملٍ فِدائيٍّ لخلاصِ الإنسان وبُنيانِ الكنيسة. والمهمّ ألاَّ نحاولَ بمثل هذه الأمور غير الجوهرية في العبادة والأطعمةِ مثلاً أنْ نُعطِّلَ ونعوقَ عملَ الخلاص الذي دبَّره الله من أجل خلاص البشر. والرسول بولس سبق فحذَّرنا مِنْ هذا الأمر داعيًا إيّانا ألاَّ نكون بطعامنا سببًا في هلاك الأخرين وفي نقض عمل الله. فهل يمكن أن أُهْلِكَ أنا بتصرفاتي إنسانًا إختاره الله أو أنقض ما يبنيه الله؟ حاشا. ولكنْ إنْ فعلتُ هذا، أكون حينئذٍ في صفِّ الشيطانِ الذي يريد هلاك الجميع ونقض كلّ بنيان. وأكونُ بالتالي ضدّ الله الذي يريد خلاص الجميع. جميلٌ أن نأكُل َبإيمانٍ قويٍّ ولكنَّ الأجملَ ألاَّ نفعلَ ما يُعْثِرُ الأخرين.
هل لنا إيمانٌ صحيحٌ فيما يختصُّ بالأطعمة. هذا حسن. ولكن، ليكن لنا هذا الإيمان في نفسنا وليعرفه الله فقط. ولا نتباهى بإيماننا القويِّ على مَنْ لا يزال إيمانُهُ ضعيفًا. وكلمةُ إيمانٍ هنا لا تعني الإيمانَ بالمسيح الذي يبرِّر، بل الحرية التي أعطتنا أن نتحررَ مِنَ الناموس والشريعة وصارت لنا المعرفة السليمة. طوبى لمن لا يدين نفسَهُ فيما يستحسنه. وطوبى للإنسان الذي لا يشعر بتأنيب ضميره عندما يفعل هذا الذي سبق وفحصه بكل تدقيق واستحسن فعله. ولكنّه خطرٌ جدًّا أن يسمحَ الإنسانُ لنفسه بأن يفعلَ شيئًا ضد ضميره من أجل اللّذة أو المنفعة، لأن قلبَهُ وضميرَهُ سيوبخانه. فإنْ وَبَّخَهُ ضميرُهُ على شيء ما وفعلُهُ، ففي هذا تحدٍّ واستهتارٍ بوصايا الله.
أنَّ الله هو الذي أعطانا الإيمانَ القويّ، وهذا دين علينا أن نسددَهُ، بأن نتحمل ضعف الضعفاء. فالله نزل إلينا وحمل ضعفنا ليرفعَنا إلى كمال قوتِهِ وبهائه ومجده. فلنحتملْ نحن ضعفَ إخوتنا إنْ كان المسيحُ قد احتمل ضعفنا وحمل أوجاعنا وألاَّ نفعل فقط ما تحبه نفوسنا وما يرضيها. بلْ علينا أن نفعل ما يرضي الآخرين بما فيه خيرهم وبنيانهم ونموهم في الفضيلة.
إنَّ المسيح قدْ تجسد وافتقر وتألم لأجلنا، ولم يكن له موضعٌ يسند رأسه عليه. وعاش على المساعدات، ورفض المُلْك، وغسل الأرجل وأطاع حتى الموت الموت على الصليب. لقد أخلى ذاته محتملاً ضعفنا. فالذي له كل المجد قبل هذا أفلا أقبله أنا لأربح أخي.
إنَّ المسيح إحتمل التعيير على الصليب ليتمِّمَ إرادة الآب في خلاص البشر. ولأنّ الآب والإبن هما واحد، فكلُّ تعيِيرٍ للإبن بسبب الصليب هو تعييرٌ للآبِ الذي أراد الصليب. وكلُّ هذه التعييرات هي خطايا البشر حملها المسيحُ على الصليب. بل إنَّ كلَّ خطايا العالم هي موجهةٌ لشخص الآب. وعلى الصليب إحتمل المسيحُ كلَّ هذه التعييرات والإهانات التي وجهها العالمُ لشخص الآب. ومات المسيحُ مصلوبًا ليحمل خطايا الجميع بالإضافة للتعييرات التي وُجِّهَتْ لشخص المسيح. ومعنى كلام بولس لهم أنكم “أنتم الأقوياء صرتم هكذا أقوياء” لأن المسيحَ احتمل التعيير للآب ولهُ حاملاً ضعفكم وعار خطاياكم. إذًا فلنسند نحن الأقوياءُ الضعفاءَ كما فعل المسيحَ معنا.
إن كل ما كُتِبَ في العهد القديم قدْ كُتِب لأجل تعليمنا. فالعهدُ القديم ليس مجموعة مِنَ القِصصِ والأقوال، بل هو رمزٌ للمسيح وشهادةٌ له، لتعليمنا وتحذيرنا وتعزيتِنَا في وقت الألم. فلنتمسكْ إذًا بالرجاءِ المقرونِ بالصبر والتقوية التي تعطيها الكتب المقدسة.
لقد نسب بولسُ الرسول الثبات والتعزية للكتب المقدسة. ونسبها أيضًا لله كمصدر لها. فهو إلهُ الصبرِ والتعزية. وصلاة بولس أن يكونوا على رأيٍ واحد تعني انسجامَ الفكر بحيث لا يطغى فكرٌ على فكر. إنَّ الله يتمجد عندما نخدمه ونعبده ونسبحه بروحٍ واحدٍ ولسانٍ واحد. ويعني هذا أنْ يكون لنا الفكرُ الواحدُ بلا شقاقٍ ولا نزاع. أنْ يكون هناك إعترافٌ بحقِّ الله وبتسبحته بالفم. فنرى عندئذٍ قلوبًا وأفواهًا متحدةً بمحبةٍ هدفُها مجد الله، وهذا ما يطلبه الله.
إن المسيحَ قَبِلَنَا فلماذا لا نقبلُ بعضنا البعض. المسيحُ سامحنا في كل شيءٍ فلماذا لا نسامح إخوتنا في شيءٍ ما. إنَّ المسيح قَبِلنَا لنمجِّدَ الله، والله يتمجدُ إنِ اعترفنا بالمسيح وآمَنَّا به. فليقبلْ إذًا القويُّ الضعيفَ وليقبلِ الضعيفُ القويّ، واليهودُ يقبلون الأممَ والأممُ يقبلون اليهود.
أتى المسيح ليَخدُمَ لا ليُخدَم، فأكمل الناموسَ ونفَّذه واختتن هو نفسه، وهو كان من اليهودِ الذين اختُتِنُوا. فكيف يُحْتَقَرُ اليهودُ والمسيحُ منهم وهو التزمَ بناموسهم. إنَّ الله أعطى وعدًا لإبراهيم، وكان مجيءُ المسيحِ مكمِّلاً لهذا الوعد، وحاملاً الغضب عن الساقطين الذين خانوا العهد مِنْ أولادِ إبراهيم. إنْ كان المسيحُ قد قَبِلَ اليهودَ والأمم، وصارَ الجميعُ واحدًا في المسيح، فليقبلْ كلُّ واحدٍ الآخر.

في النهاية نستطيعُ القولَ أنَّ سرَ المسيح بحسبِ بولسَ الرسول هو قبولُ الأممِ في الكنيسةِ مع اليهودِ الذين يؤمنون، أيّ أنْ يحيَا الكلُّ في محبةٍ وتوافُقٍ وانسجام. فنتغاضى عن الأشياء الصغيرة التي عند الضعفاءِ المتشكِّكِين حتى نكسبَهم للمسيح ولكنْ ليس على حسابِ الإيمان. فالكنيسةُ قد تجمَّعتْ مِنْ أممٍ ويهودٍ، وعلى كلِّ عضوٍ في الكنيسة أن يقبلَ الآخرَ بانفتاحِ قلبٍ محتملين ضعفَ الضعفاءِ أيًّا كان ماضيهم.
إنَّ الله قَبِلَ الأُمَمَ وهم مجَّدُوهُ بإيمانهم بالمسيح. مجّدُوهُ مِنْ أجلِ مراحِمِهِ لهم إذْ قَبِلَهُم ورحمهم. لقد صار الكلُّ بالمسيحِ شُركاءَ في آلامِ وفرحِ الكنيسة، وصاروا شركاءَ تسبيحٍ لله. إنَّ الله قَبِلَ اليهودَ والأُمَم، قَبِلَهُمَا كليهما، فعليهما إذًا أن يقبلوا بعضهما البعض ويعيشوا في محبّة. وإذَا امتلأ الجميعُ محبّة، فاضَ الروحُ القُدُسُ عليهم وملأهُم فرحًا ورجاءً.

تأمل في إنجيل أحد مثل الإبن الضال 2018

أحد مثل الأبن الضال
رسالة يسوع لابنه الضال
“يا ابني
انا أعرفك
أنا خلقتك بنفخة محبة، فكانت روحك
خلقتك على صورتي ومثالي
أنا أعرفك، أعرفك باسمك وأعرف كل ظروفك
أعرف عدد شعر رأسك، فأنت لا عبد ولا رقم ولا مجهول عندي، أنت ولدي الذي من أحشائي خرج، بعد مغص المحبة ووجع الخلاص
خلقتك وأشركتك بملكوتي، ودعوتك للأُلوهية برفقتي
أرسلتك إلى هذا العالم، فبنيت لنفسك بيتًا مظلمًا لبس حلّةً حزينة، بيتك كان بيتي، لكن
بيتي لم يعرفني..
كان مرصّعًا بالذهب من الخارج، وبحجارة شاحبة تبعث بالكآبة من الداخل. الشبابيك معتمة والباب مغلق ساكن. كان بيتًا كئيبًا حزينًا كسكانه.
دخلته وأعدت الحياة إليه. غمرت أهله بسلاحي العظيم، أحييتُهم من جديد. غمرتُهم بحناني الفائق ونعمتي الغزيرة. شفيتُ المرضى منهم، فأبصرَ العميان تكلمَ البكم وسمعَ الصم، أعطيتُ لمن عرفني حظوة في دهاليز العالم الثاني، حظوة في أحضاني
تأنستُ، لأقول لك: يا إنسان، أنا أحبك
عشتُ معك، بطاعة ﻷمي مريم وصفيي يوسف
صمتُ في صحراء، ودستُ على الشر والتجربة دعسة الجندي المنتصر، صُلبْتُ على خشبة فحَمِلتُ خطاياك، تغلبتُ على الموت وأعطيتُك الحياة
يا ابني الإنسان، أنا أحبك
نعم أحبك بالرغم من ذنوبك. أحبك رغم الخطيئة الغارق في مستنقعها، أحبك في أصعب لحظاتك وأجملها، أحبك حتى لو كنت ضائعا بين أهوائك ونزواتك وحاجبًا النظر عني
وأحبك وسأظل أحبك إلى الأبد، وسأظل أقرع بابك حتى تفتح فأستقر في قلبك، فأنت ابني الحبيب
و إذا شعرت يومًا يا حبيبي أنك وحيد ، فاعرف أني هنا أمامك، إلى جانبك، وأذناي مستعدتان لسماعك
فمهما ضاقت بك الدنيا ومهما شعرت بأنك على وشك الإستسلام تذكر بأني معيلك، تذكر أن هذه الحياة فانية، وفي نهاية المطاف، ثمة حياة أفضل من حياتك الأرضية بكثير، حياة مثالية تعيشها مغمورًا بحبي اللامتناهي، إلى أبد الآبدين
فمهلاً أيها الحبيب، لا يضلُّ قلبك ولا و تمضي روحك في متاهاتٍ بعيدة، غريبة عنك وعني، خالية من نوري ومن شروقي،
متاهاتٍ فاترة باردة مفتقرة الى دفئي وعذوبتي،
قاسية خشنة موجعة ليس فيها شيئًا من حناني وحبي!
أيها الصغير الحبيب، أنا لك هنا في انتظارٍ مستمر، مترقبًا عودتك بشوقٍ حقيقي،
صابِرًا وكُلِّي ثقةٍ بقلبك الذي هو جزء مني ومن قلبي، أن يدُلَّك الى السبيل فتعود الى أحضاني،
وترجع عن بعدك وتأتيني،
وتهجر كل ضياعكَ وغربتك لتعودَ مُستقرًّا، ثابِتًا، ملتزمًا بكل كيانك في كنَفيِ ومَسكني لتنعمَ بسلامٍ ملؤهُ النعمة والفرح!
أنا في انتظارك أيها الصغير الحبيب،
أنا في انتظارك.
يا ابني
أنا أحبك”
جاكي جوزيف ضوميط

تأمل في إنجيل أحد آية شفاء المنزوفة 2018

أحد آية شفاء المنزوفة
نقف في هذا الأحد مذهولين أمام لوحتين رَسَمَتهُما يدُ القلب الكامل؛ لوحة شفاء ولوحة إحياء. ها إنّ قلوبنا تتأرجح مع نسمة نُفِخَت في روح كل من المنزوفة وابنة يائيروس. فالأولى كانت ترقد على رجاء قيامة لم تُختبر بعد، والثانية حية لكنها كانت منساقة نحو موت حتمي تبحث عن شاف لها.
الأولى في ربيع العمر وفورة الأنوثةِ وبدءِ النّضجِ، تموت قبل أن تتفتّح فيها المرأة، في سنّ الثانية عشرة. إبنةٌ وحيدة، إبنة أبيها، القائدِ القويّ الذّي عُرِف بِتَعَلّقِه بوحيدته حتّى الثمالة، إبنة ماتت ولم يستطع أن يرُدَّ عنها سوء المَصير. والثانية إمرأة ليست بامرأة، باتت تخجل وتتألّم بصمتٍ وما من أحدٍ يدري بنزاعها اليوميّ… لقد سُلِبَت حقّها الطبيعيّ في أن تحيا وتعطي الحياة، فغرقت في الإحباط وأقْصَت نفسها عن المجتمعِ لئلاّ يُكْتشَفَ أمرها، وتدور الكلمات “تزعق” في الحناجر أغنية الموت البطيء دون رحمة: “أنظروا المدنّسة، اْنبذوها، لا تَمَسّوها…” وراحت تفقد، كلّ يوم، نسمةً من حياةٍ، مع كلّ ورقة متساقطة من وردتها الحمراء الذّابلة انتهت… لقد أضحت جسدًا بلا حياة.
فتاتانِ توقّفت فيهما حياة المرأة :الأولى بسبب مرضها والثانية بسبب الموت.
ويمرّ يسوع في المكان… ويَقْوى نداء الحياة على الإستسلام إلى الموت والتخلّي عن الحقّ فيها.
بلمسة مؤمنة راكعة تقدمت فى الخفاء بنفس منكسرة وانسحاق لتتلامس مع الرب، كسرت قيود أصوات خنقتها بحكمها عليها، تناسَت أحكام مجتمعها وركضت نحو الشافي. لم تحمل مالاً أو ثياب. لا جمالاً ولا جسمًا سالمًا ولا مقتنيات وأملاك. إكتفت بحبة إيمان وبها حرّكت جبال الحب والشفاء. إيمانها المطلق بقدرة يسوع، وهبها الخلاص، وأعادها صحيحة إلى مجتمعٍ سقيم الفكر، متزمّت الحكم على ذوي بعض الأمراض.
ضعيفة أتت من خلفٍ ولمسته. كانت، لا بل كان مغلوبًا على أمرها. لكنّها آمنت، فشُفِيَت، تقوَّت بالذي انتشلها من عارِها، مُعيدًا إليها كلّ ما فقدته، فجاهرت فرحة بشفائها، معترفة بِعِلَّتِها، شاكرة، بأعلى صوتها، الّذي أخرسه الألم والإحباط طوال اثنتيّ عشرة عامًا، شاهدةً على قدرة يسوع، دون إيعازٍ من أحد بل لأنها أحسَّت ذلك في قلبها وأدركته بإيمانها الواعي. وبإيمان يائيروس الذي عاش بعد سماع صدى صرخة المنزوفة الساكتة، أعاد يسوع ابنته إلى الحياة كي تنطلق حرّة ناضجة مُطلَقَة القيود في عواطفها الأنثويّة بعد أن كانت تتمايل في ثوب الموت دون حياة.
هـبنا يا يسوع اليوم، أن نرتمي على قدميك، كما فعل كل من المنزوفة و يائيروس، نكسر قيود شريعة الحرف، الشريعة المميتة، و نركض بلهف نحو الحياة، نحو المخلص، وعندما تسأل :”من لمسني”
نتراقص مع نغمات القلب فرحًا ويقول كل منا: “أنا هو ذلك الذي كان مائت النفس وعاش. أنا هو ذلك الذي كان فاقد القيمة والمكانة بين الأهل والناس. أنا هو الباكي بصمت، الغارق بالآهات والمخنوق في حنجرة الحياة. أنا هو ! وليس سواي! وها أنا اليوم أجثو أمامك، وواثق كل الثقة أنك أنت هو المخلص الوحيد القادر أن يشفيني، فخلصني من الدنس الذي أكل روحي منذ الأزل، واملأ قلبي من فيض محبتك ليسكر فرحا”.
وهكذا، كابنة يائيروس، نقوم من موتنا الروحي، وكالمنزوفة نشفى من الخطيئة المميتة
ومن أبناء الخطيئة، أبناء الموت، نضحي أبناء البر، أبناء الحياة، آمين.
جاكي جوزيف ضوميط