جاء في سفر أعمال الرسل أنّه في اليوم الخمسين للقيامة حضر إلى أورشليم يهودٌ أتقياء مِنْ كلِّ أمّة، ومِنْ بينهم رومانيّون مستوطنون يهود ودخلاء (راجع رسل2: 5، 10). هؤلاء الرومانيّون قبلوا الإيمان بالسيدِ المسيح وعادوا من أورشليم إلى روما يكرزون بين إخوتهم اليهود. لقد آمن عددٌ ليس بقليلٍ من يهود روما بالسيد المسيح، سواء كانوا يهودًا من أصلٍ عبرانيٍّ أم دخلاء مِنَ الأمم، كما آمن أيضًا بعض الأمميّين الوثنيين المثقفين. وكان يلزم أن يلتقيَ الجميعُ بوحدانيّة الروحِ كأعضاءٍ في جسدٍ واحد. لكنَّ اليهودَ بتربيتهم المتزمّتة، وتعصبهِمِ الشديد لجنسهم وثقافتهم وفكرهم الديني، لم يقدروا أن ينزعوا أنفسهم بسهولةٍ عن شعورهم بالامتياز عن غيرهم، حتى بعد قبولهم الإيمان المسيحي. لقد استخفوا بالأمميِّين المتنصرين تحت ذريعةِ أنّهم أبناءُ إبراهيم وأصحابُ الوعد ومستلمو الناموس الموسوي دون سواهم. فهم بالتالي شعبُ الله المختار وحدهم. إنطلاقًا مِنْ فكرهم هذا، تأصل فيهم الكبرياء عن عدم فهمٍ للبنوّة لإبراهيم ولا غاية الناموس ولا معنى اختيار الله لشعبه. فظنّوا أنّهم حتى بعد قبول الإيمان بالمسيحِ المخلِّص يبقون في مرتبة أسمى وأعلى.
في المقابل وأمام هذا الواقع، أخذَ بعضُ الأمميّين المتنصِّرين موقِفًا مضادًّا كَرَدِّ فعلٍ للفكرِ اليهوديّ، فنظروا لليهودِ كشعبٍ جاحدٍ أُغلقَ البابُ بالنسبَةِ إليهم لينفتحَ لهم على مصراعيه، الأمر الذي عرَّضهم هم أيضًا للكبرياء.
خلال هذه الظروف، جاءتْ رسالةُ بولس إلى أهلِ روما مُوجَّهَةً إلى الطرفين لتعالِجَ قَضَايَا إيمانيّةٍ حيَّةٍ وسلوكًا روحيًّا إيمانيًّا يَمَسُّ حَيَاةَ الكنيسة عبر الأجيالِ كلِّها. لقد دلَّت هذه الرسالة على شموليّةِ الخلاص وأنَّ البابَ قد انفتحَ للجميع سواءً كانوا يهودًا أم أُمميّين مِنْ خلال الإيمان الحيِّ العاملِ بالمحبة. لقد قَدّم لنا بولسُ الرسول بوحي الروح القدس مفهومَ الإيمان وارتباطه بالخلاص، كما كشف لنا عن قلبه الرسولي المتفجِّر بالحبِّ نحو المسيح ونحو البشريّة كلِّها التي مات المسيحُ على الصليب مِنْ أجلها. وفي نفس الوقت، عالج مشكلةَ الكبرياءِ سواء في حياةِ اليهودِ أو الأمم. لقد مَسَّتْ هذه الرسالة إيمانَ الكنيسة وعَبَّرَتْ عنِ الحياة الإنجيلية بِدِقَّةٍ بالغة، فَدُعِيَتْ هذه الرسالة “إنجيل بولس”.يفتَتِحُ بولسُ رسالتَهُ هذه بتوجيهِ التحيّة والمديح إلى كنيسةِ روما على إيمانهم، ويذكُرُ الفكرةَ الأساسيّةَ في الرسالة، وهيَ أنَّ بشارةَ يسوعَ تُظهِرُ كيف يبرِّرُ اللهُ الإنسانَ بالإيمانِ وحدَهُ، أيهوديًّا كان أم غيرَ يهوديّ. فالبشرُ كلُّهُم في حاجةٍ إلى التبرير، لأنّهم جميعًا تحت سلطانِ الخطيئة. وهذا لا يكونُ إلاَّ مِنْ عندِ الله بيسوعَ المسيح.
يصفُ بولسُ، في هذه الرسالة، الحياةَ الجديدةَ في المسيح. هذه الحياة التي يَنعَمُ بها كُلُّ مَنْ برَّرَهُ اللهُ بالإيمان، فيحيَا في سلامٍ مع الله، ويتحرَّر بالروحِ القدسِ مِنْ سلطانِ الخطيئةِ والموت. ثمّ يتحدّثُ عَنْ غايةِ شريعةِ الله وقوّةِ روحِ الله في حياةِ المؤمن، فيتصدّى لمسألةِ انسجامِ اليهودِ وغير اليهودِ مع تدبيرِ اللهِ للبشر. ويخلُصُ بعدها إلى الإعلانِ بأنَّ رَفْضَ اليهودِ للمسيحِ هو جزءٌ مِنْ تدبيرِ الله، ليجعلَ نعمةَ اللهِ في المسيحِ يسوعَ في متناوَلِ جميعِ البشر، ومنهم اليهود الذين لا بُدَّ لهم يومًا ما مِنَ الإيمان بالمسيحِ يسوع. وفي النهايةِ، يُبَيِّنُ بولسُ كيف يجبُ أنْ تكونَ الحياةُ المسيحيّة، مشدِّدًا على المحبّة التي يجبُ أنْ تَربُطَ جميعَ الناسِ بعضهم ببعض.
لقد قسَّمَ بولسُ رسالتَهُ إلى أهل روما إلى قسمَين أساسيَّين. قسم أولّ لاهوتيّ تعليميّ (1-11) وقسم ثاني أدبيّ وعمليّ (12-16).
لقد أظهر في القسمِ الأوّل، وبشكلٍ واضِح، شقاءَ الإنسانِ وخلاصَهُ. فاتَّبَعَ أُسلُوبًا خاصًّا في الشرح، أعلَنَ فيه بأنَّ الإنجيلَ هو قوّةُ خلاصٍ لكلِّ مؤمن. ثمّ وَسَّعَهُ في أربعِ مراحل مُتتالية، شارحًا في كلِّ مرحلة، في لوحين سلبيٍّ وإيجابيّ، الضعفَ والشقاءَ بدون الإنجيل، في لوح، والقوّةَ والخلاصَ بالإنجيل، في لوحٍ ثانٍ على الشكل التالي:
– شقاءُ الوثنيّين واليهود بدون الإنجيل (1: 18-3: 20).
– خلاصُ الجميعِ بالإنجيل (3: 21-5: 11).
– شقاءُ الإنسانِ المتضامنِ مع آدم (5: 12-21).
– خلاصُ الإنسانِ المتضامِنِ ويسوع، آدم الثاني البار (6: 1-23)
– شقاءُ الإنسانِ في قيد الشريعة (7).
– خلاصُ الإنسان المؤمنِ السالكِ في نعمة الروح القدس (8).
– شقاءُ إسرائيل الرافض للمسيح (9-10).
– خلاصُ إسرائيل المؤمن بالمسيح (11).
مِنْ هنا يظهر، بحسب بولس، ضعفُ وشقاءُ الإنسانِ المتمسِّكِ بالشريعةِ الموسويَّةِ والبعيدِ كُلِّ البُعدِ عَنِ المسيحِ وتعليمِه. كما تتجلَّى بالمقابلِ قوَّةُ المؤمِنِ وخلاصُهُ مِنْ خلالِ التمسُّكِ بالمسيحِ وإنجيلِه، شريعةِ العهدِ الجديد.
لقد ظهر جليًّا موضوعُ القويِّ والضعيف في هذه الرسالة وخصوصًا في الفصلين الرابع عشر والخامس عشر. فشدَّد بولس على التعايُش الأخويّ بين فئة “الأقوياء” وهم المؤمنون مِنْ أصلٍ وثنِيّ، متحرّرون ينعمون بحريّة الضمير، وفئة “الضعفاء” وهم المؤمنون مِنْ أصلٍ يهوديٍّ، يَرَون واجب المحافظة على الممارسات القديمة، وروزنامة الأعياد الخاصّة، والإمتناع عَنْ أكل اللحم وشرب الخمر والإكتفاء بأكل البقول والتمييز بين الطاهر والنجس. لقد كان البعضُ يخشى في أكل لحم الخنزير أو الجمل كَسْرًا للناموس، وإذْ كان ضميرهم متشكِّكًا تظاهروا بالصوم والتقشف فامتنعوا عن أكل اللحوم بالكلية. بينما أدرك آخرون أنهم في المسيح يسوع نالوا الحرية من الطقوس الحرفية، فصاروا يأكلون اللحوم أيًّا كانت. لقد دخل الإثنين في صراعٍ فكريّ ومناقشات أظهرتْ بشكلٍ واضحٍ كبرياءهم الذي أبعدهم كلّ البعد عن فهمٍ حقيقيٍّ لسرِّ المسيح. لم يرد بولس أن يدخُلَ في هذا الصراع معتبرًا أنَّ أمْرَ الأكْلِ أتفهٌ مِنْ أن يشغلَ فكرَ المسيحيين ووقتهم. لقد كَشَفَ بذلك ضعفَ الضعفاءِ الذين يتشككون بسبب طول ممارساتهم للشريعة الموسوية ويصعب عليهم التخلص منها. كما هاجم في الوقت نفسه الأقوياء الذين يزدرون إخوتهم الضعفاء ويحتقرونهم لأنهم امتنعوا عَنْ أكل اللحوم لتشككهم.
لقد شدَّد بولس الرسول على تقبُّلِ الضعفاء في إيمانهم، داعيًا كلَّ مسيحيٍّ مؤمنٍ لأنْ يترفقَ بأخيه الضعيف في الإيمان فيسنده بروح المحبّة لا الإدانة حتى يسيرَ الكُلُّ في طريق الخلاص. إنَّ المسيحيّ مدعوٌّ برأي بولس لكي يتركَ صغائر الأمور ويلتفت لما هو للبنيان لا لِمُحاكمة وإدانة الأفكار، لأن الدينونة هي عملُ الله. لكنَّ هذا الكلام لا ينطبق على العقائد، فمَنْ يعلِّمُ تعليمًا مناقضًا للإيمان، يجب أن تقاومه الكنيسة. لقد خضع بولسُ القويُّ بنفسِهِ لهذه الأمور فختن طيموتاوس ليربح الضعفاء، وصار لليهود كأنّه يهوديٌ ليربح اليهود (راجع 1قور9: 19-22).
لم يهتمّ بولسُ يومًا بأن يلتزمَ المؤمنُ بيومٍ أو بنوعٍ مِنَ الأطعمة أم لا. والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ أهلَ روما كانوا حديثي الإيمان، فلا يريد أن يربكَهم إلى أن يحضرَ هو بنفسه ويعلِّمَ التعليم الصحيح الذي يرفعهم فوق مستوى الشرائع اليهودية. كما أنَّه لا يريد أن يجعلَهم يتشككون بسبب ماضيهم في الإيمان، آخذًا في الإعتبارِ أنَّ مَنْ أصله يهوديّ سيعاني مِنْ ضغوطِ ضميره بسبب نشأته. وأمَّا بالنسبة للذين هم مِنْ أصلٍ أمميٍّ وثنيّ، فقد كانوا فريسةً لبعض المعلمين المتهودين الذين كانوا ينادون أولاً بالممارسات اليهودية كوسيلة أولى للخلاص. هؤلاء هاجمهم بولس كما فعل مع أهل غلاطية وقولسي.
لقد نال المؤمنُ والقويُّ في إيمانه بالمسيح الحريةَ مِنَ الطقوسِ الحرفية. فبدأ يأكل بلا ارتيابٍ مؤمنًا أنَّ الربَّ يسوع لم يمنع الأكل، لأن الأكل بحدِّ ذاتِهِ لا ينجِّس، إنَّما النجاسة تنبع من داخل الإنسان (راجع مت15: 11).
لقد خاف الضعيف في الإيمان من أكل لحومٍ قد تكون محرَّمَةً كالخنزير، أو قُدِّمَت لأوثانٍ خوفًا مِنْ مخالفةِ الشريعة فكان يأكل البقول. رأى البعض في هذا العمل تزمتًا وأفكارًا ضيّقةً وإيمانًا متحجّرًا.
أمام هذا الواقع، حذّرَ بولسُ القويَّ أوّلاً مِنْ الشعور بالقوةِ واحتقار الضعيف، كما حذّر أيضًا الضعيفَ مِنْ دينونة القويّ الذي يأكل ما يريد، لأنّ الله يقبل هذا وذاك ولا يميّز بين الإثنين. فالربُّ وحدُهُ هو سيّدُ الجميع ونحن كلّنا أبناؤه. فلا يظنَنَّ أحدٌ أنَّ الله لن يقبلَ الذي يتصرف بحرية أو سوف يرفض من يتشكك. لكنَّ الله قادرٌ أن يثبِّتَ الواحدَ في نزاهته والآخرَ في راحة ضميره.
لقد دعا بولسُ كُلَّ وَاحِدٍ منهم إلى البقاء عَلى يَقِينِهِ في رأْيِهِ الخَاصّ، فيُحَكِّموا ضمائرهم وعقولَهم في هذا الأمر وذاك، ويتخذوا قراراتهم دونَ إرتيابٍ أو تشككٍ بحسبِ قناعاتهم.
بدلاً مِنْ أنْ ينشغلَ الرومانيّون المسيحيّون بإدانة بعضهم البعض، رفع بولس الرسول نَظَرَهم إلى الربِّ يسوع ليشكروا الله الآب على جميع عطاياه. لقد أوضح لهم أنّ الذي يهتمُّ بيوم السبت، يُكرِّمه لأنّه يعتبره يومًا أقدس من باقي الأيام. إنّه يحترمُ السبتَ ويقدسُهُ لأنّ الله أمَرَ بهذا. فهو يمجّد الربّ في هذا العمل. والذي لا يهتم بالسبت أو بغيرِهِ شاعرًا بأن المسيح حرَّره من هذه الطقوس، فهو لا يهتمّ، لأنه يمجدُ الرب ويهتمُّ بأمره. والذي يأكل، يشكر، لأنَّه يشعرُ أنَّ الرب أعطاه الحرية ليأكل كل شيء. والذي لا يأكل، يشكرُ أيضًا على باقي الأطعمة والبركات التي أعطاها الله له.
في حكمةٍ عجيبة سحب الرسول بولس الطرفين من النقاش ليرتفع بفكرهم فوق محيط الأكل والشرب والأعمال الزمنيّة التي تختص بهذا الزمن، إلى أفقٍ أعلى إيمانيًّا وحياتيًّا. لقد سما بالإيمان المسيحيِّ فوق أعمال هذا الزمان ليضعَ الإنسانَ المسيحيَّ في وضعه النهائيِّ مع المسيح الذي يحتضن الجميع في شخصه. فالحياة كلُّها ينبغي أن تكونَ لأجل المسيح، سواء أكانت حياةً ماديَّةً أم روحيّة. إنَّ الحياة ما وُهِبتْ إلاَّ لكي نمجدَ المسيحَ ونعملَ مشيئتَه. والموتُ ما وُجِدَ أيضًا إلاَّ لكي نذهبَ به إلى المسيح. الله خَلَقَنَا لأعمالٍ صالحةٍ نمجد الله بها، وبعد أنْ نُنْهِيَ أعمالَنا نموتُ لنبدأ حياةً جديدةً مِنْ نوعٍ آخر، حياةً نسبحُ فيها المسيح ونمجدُهُ بطريقةٍ أُخرى (راجع 2قو5: 14-15). ما عدنا نحيا بعد الآن كما نريدُ وَبِحسبِ شهواتنا وملذّاتنا، وما عدنا نخاف الموت. فَالمسيح مات وقام لكي يهبنا الحياة، ونحن أنفسنا مدينين له بحياتنا سواء في وجودنا في هذا العالم الحاضر أو في انتقالنا منه. لم نعد مُلكًا لأنفسنا بل أصبحنا مُلكًا له. لقد صارت إرادةُ المسيح قانونًا لنا ومجد المسيح هدفًا لنا، فنعيشَ ونموتَ ونُستشهدَ لكي نمجدَهُ في كلِّ تصرفات حياتنا. المسيحُ جمع في شخصه كلَّ خطوط الحياة والموت. والمسيحيَّةُ الحقَّةُ هي التي تجعل المسيحَ الكُلَّ في الكل. إذًا، ما دمنا للمسيح سواء أحياء أو أموات، فيجب علينا أنْ نعملَ كلَّ أعمالنا من أجل الله وليس لأجل ذواتنا أو للعناد، لأنّنا لسنا لذواتنا بل لله.
لقد مات المسيح وقام لكي يكون مَلِكاً على الكل (راجع أف1: 20-22). فكيف نزدري إذًا بمن هو واحد معنا في المسيح، والمسيحُ يملكُ على كلِّنا. إنْ كان المسيحُ مات وبذل نفسه لأجل البشر، فكيف نُحزنُ نحن ذاك الذي مات المسيح مِنْ أجله. إن كان المسيحُ مات ليقبلَ الكُلّ، فهل نرفُضُ نحن الناسَ لأنهم يأكلون أو لا يأكلون. فالمهمَّ إذًا هو ربحُ النفوس، وهذا ما يريده المسيح. وعلينا أن ننشغل بمنْ مات وقام فداءً عنّا عِوضًا عن انشغالنا بالإدانة لأنّها تفسد أعماقنا إذْ تحملُ ازدراءَ الإخوَة عوضًا عن اتِّساعِ القلب لهم، وتسيءُ لله بكونه هو الديان الذي يخضع له الكل، وتعثرُ كذلك الآخرين.
سنقف كلُّنا يومًا ما، يقول بولس، أمام كرسيِّ المسيح. لذلك علينا ألاّ نزدريَ أحدًا ولا ندينَ أحدًا لأنَّ المسيحَ وحدُهُ هو الدّيان. وكلُّ ركبةٍ ستجثو للمسيح لأنّ المسيح هو الله. فلنفكّر إذًا بلحظةِ وقوفنا أمام كرسيِّ الربّ عوضًا عن الإنشغال بإدانة الناس. ولنفكرْ أيضًا باليوم الذي سنُدانُ فيه أمام الله عوضًا عن أن ننشغل بإدانة بعضنا البعض. فكلٌّ منّا سيُعطي حسابًا لله عن نفسه وليس عن الآخرين. وعلى هذا أيضًا، لنمتنع عن محاكمة بعضنا البعض، لأن محاكمة الآخرين تضع أمامهم معطلات وعوائق تكون لهم حجر عثرة.
يظهر بولسُ في هذه الرسالة وكأنّه يريد أنْ يجمعَ الإثنين معًا. يقف أوّلاً في صفِّ اليهوديِّ المتنصّرِ الذي تربى ضميرُهُ مِنْ خلال الناموس على اعتبار أنَّ بعضَ الأطعمةِ نجسة. إنّه لو أكل منها تكون له نجسةً فعلاً لأنّه يخالف ضميره. ويقفُ أيضًا في صفِّ الأمم الأقوياء بالإيمان، لأنّه لا يوجدُ شيءٌ نجسٌ في ذاته.
إنَّ المحبة برأي بولس هيَ أهمُّ بكثيرٍ جدًّا مِنَ الاقتناع بأنْ أكلَ اللحم المحلَّلِ يكون سببَ عثرةٍ للآخرين. فإذا كان تناولُكَ لبعض الأطعمة يسبِّبُ حزنًا لأخيك، أو قد يظنُّ السوءَ بك ويتشكّكُ في أنك تهين عقيدتَهُ فيهلكَ بسبب ضعفه، أو يقلّدُكَ ويأكلُ مما يعتبره هو نجسًا ويخالفُ ضميرَهُ فيهلك، فإنك بهذا لا تسلك بعد بما يتفق والمحبة، لأنك تظلُّ تتناولُ مِنَ الأطعمة وتتسبَّبُ في حزن أخيك الذي مات المسيح لأجله. فأنت بهذا الفعل تهلكُ نفسًا مات المسيح لأجلها. فإنْ كان المسيحُ قد قدَّم نفسَهُ لأجل أخيك، أفلا تقدِّمُ أنت ما هو أقلّ وتتركُ طعامًا. لقد نفَّذَ بولسُ نفسُهُ هذا المبدأ، فَمَعَ أنَّه غير مقتنع بالختان إلاَّ أنّهُ ختنَ طيموتاوس حتى لا يعثرَ اليهودُ الذين يخدم طيموتاوس في وسطهم.
إنَّ أفكارَكَ ومعتقداتِكَ عَنِ الأكل بِحرِّيةٍ هي معتقداتٌ صالحة، ولكنَّ أخاكَ الضعيفَ سيتعثَّرُ فيك ويَفْتَرِي عليك ويتكلمُ عليك بالسوء. نحن لن نستطيع أن نمنعَ الافتراء، ولكن علينا ألاَّ نكون سببًا فيه. فحين يملِكُ الله على القلب ويخضعُ الإنسانُ خضوعًا قلبيًا لسلطان الله، لن يهتمَّ الإنسانُ حينئذٍ بالأكل والشرب، ولن نفرحَ بسبب أكلاتٍ أو أشربةٍ معينة، ولن يكونَ امتناعُنا عنها سببًا في أن نفقدَ فرحنا. فنحن في ملكوت الله نحيا مع المسيح حياةً سماويةً، ويملأنا الروح القدس فيعطينا أن نحيا في برٍ وسلامٍ وفرحٍ. ونصنعَ البِرَّ فيمتلئ القلبُ سلامًا وفرحًا.
مَنْ عاش خادمًا للمسيح وصانعًا برًّا وقلبه مملوءٌ محبّةً وسلامًا وفرحًا، فهو مرضيٌّ عند الله ومزكي عند الناس الصالحين ومشهودٌ له بالنجاح في الاختبار. فلا بنيان للكنيسة دون محبة، ولا تثبيت لعمل الله دون سلام. فليحتمل القويُّ والضعيفُ بعضَهما حتى تُبنى الكنيسة.
إنَّ منازعات الإنسان تهدم ما يقومُ به الله مِنْ عملٍ فِدائيٍّ لخلاصِ الإنسان وبُنيانِ الكنيسة. والمهمّ ألاَّ نحاولَ بمثل هذه الأمور غير الجوهرية في العبادة والأطعمةِ مثلاً أنْ نُعطِّلَ ونعوقَ عملَ الخلاص الذي دبَّره الله من أجل خلاص البشر. والرسول بولس سبق فحذَّرنا مِنْ هذا الأمر داعيًا إيّانا ألاَّ نكون بطعامنا سببًا في هلاك الأخرين وفي نقض عمل الله. فهل يمكن أن أُهْلِكَ أنا بتصرفاتي إنسانًا إختاره الله أو أنقض ما يبنيه الله؟ حاشا. ولكنْ إنْ فعلتُ هذا، أكون حينئذٍ في صفِّ الشيطانِ الذي يريد هلاك الجميع ونقض كلّ بنيان. وأكونُ بالتالي ضدّ الله الذي يريد خلاص الجميع. جميلٌ أن نأكُل َبإيمانٍ قويٍّ ولكنَّ الأجملَ ألاَّ نفعلَ ما يُعْثِرُ الأخرين.
هل لنا إيمانٌ صحيحٌ فيما يختصُّ بالأطعمة. هذا حسن. ولكن، ليكن لنا هذا الإيمان في نفسنا وليعرفه الله فقط. ولا نتباهى بإيماننا القويِّ على مَنْ لا يزال إيمانُهُ ضعيفًا. وكلمةُ إيمانٍ هنا لا تعني الإيمانَ بالمسيح الذي يبرِّر، بل الحرية التي أعطتنا أن نتحررَ مِنَ الناموس والشريعة وصارت لنا المعرفة السليمة. طوبى لمن لا يدين نفسَهُ فيما يستحسنه. وطوبى للإنسان الذي لا يشعر بتأنيب ضميره عندما يفعل هذا الذي سبق وفحصه بكل تدقيق واستحسن فعله. ولكنّه خطرٌ جدًّا أن يسمحَ الإنسانُ لنفسه بأن يفعلَ شيئًا ضد ضميره من أجل اللّذة أو المنفعة، لأن قلبَهُ وضميرَهُ سيوبخانه. فإنْ وَبَّخَهُ ضميرُهُ على شيء ما وفعلُهُ، ففي هذا تحدٍّ واستهتارٍ بوصايا الله.
أنَّ الله هو الذي أعطانا الإيمانَ القويّ، وهذا دين علينا أن نسددَهُ، بأن نتحمل ضعف الضعفاء. فالله نزل إلينا وحمل ضعفنا ليرفعَنا إلى كمال قوتِهِ وبهائه ومجده. فلنحتملْ نحن ضعفَ إخوتنا إنْ كان المسيحُ قد احتمل ضعفنا وحمل أوجاعنا وألاَّ نفعل فقط ما تحبه نفوسنا وما يرضيها. بلْ علينا أن نفعل ما يرضي الآخرين بما فيه خيرهم وبنيانهم ونموهم في الفضيلة.
إنَّ المسيح قدْ تجسد وافتقر وتألم لأجلنا، ولم يكن له موضعٌ يسند رأسه عليه. وعاش على المساعدات، ورفض المُلْك، وغسل الأرجل وأطاع حتى الموت الموت على الصليب. لقد أخلى ذاته محتملاً ضعفنا. فالذي له كل المجد قبل هذا أفلا أقبله أنا لأربح أخي.
إنَّ المسيح إحتمل التعيير على الصليب ليتمِّمَ إرادة الآب في خلاص البشر. ولأنّ الآب والإبن هما واحد، فكلُّ تعيِيرٍ للإبن بسبب الصليب هو تعييرٌ للآبِ الذي أراد الصليب. وكلُّ هذه التعييرات هي خطايا البشر حملها المسيحُ على الصليب. بل إنَّ كلَّ خطايا العالم هي موجهةٌ لشخص الآب. وعلى الصليب إحتمل المسيحُ كلَّ هذه التعييرات والإهانات التي وجهها العالمُ لشخص الآب. ومات المسيحُ مصلوبًا ليحمل خطايا الجميع بالإضافة للتعييرات التي وُجِّهَتْ لشخص المسيح. ومعنى كلام بولس لهم أنكم “أنتم الأقوياء صرتم هكذا أقوياء” لأن المسيحَ احتمل التعيير للآب ولهُ حاملاً ضعفكم وعار خطاياكم. إذًا فلنسند نحن الأقوياءُ الضعفاءَ كما فعل المسيحَ معنا.
إن كل ما كُتِبَ في العهد القديم قدْ كُتِب لأجل تعليمنا. فالعهدُ القديم ليس مجموعة مِنَ القِصصِ والأقوال، بل هو رمزٌ للمسيح وشهادةٌ له، لتعليمنا وتحذيرنا وتعزيتِنَا في وقت الألم. فلنتمسكْ إذًا بالرجاءِ المقرونِ بالصبر والتقوية التي تعطيها الكتب المقدسة.
لقد نسب بولسُ الرسول الثبات والتعزية للكتب المقدسة. ونسبها أيضًا لله كمصدر لها. فهو إلهُ الصبرِ والتعزية. وصلاة بولس أن يكونوا على رأيٍ واحد تعني انسجامَ الفكر بحيث لا يطغى فكرٌ على فكر. إنَّ الله يتمجد عندما نخدمه ونعبده ونسبحه بروحٍ واحدٍ ولسانٍ واحد. ويعني هذا أنْ يكون لنا الفكرُ الواحدُ بلا شقاقٍ ولا نزاع. أنْ يكون هناك إعترافٌ بحقِّ الله وبتسبحته بالفم. فنرى عندئذٍ قلوبًا وأفواهًا متحدةً بمحبةٍ هدفُها مجد الله، وهذا ما يطلبه الله.
إن المسيحَ قَبِلَنَا فلماذا لا نقبلُ بعضنا البعض. المسيحُ سامحنا في كل شيءٍ فلماذا لا نسامح إخوتنا في شيءٍ ما. إنَّ المسيح قَبِلنَا لنمجِّدَ الله، والله يتمجدُ إنِ اعترفنا بالمسيح وآمَنَّا به. فليقبلْ إذًا القويُّ الضعيفَ وليقبلِ الضعيفُ القويّ، واليهودُ يقبلون الأممَ والأممُ يقبلون اليهود.
أتى المسيح ليَخدُمَ لا ليُخدَم، فأكمل الناموسَ ونفَّذه واختتن هو نفسه، وهو كان من اليهودِ الذين اختُتِنُوا. فكيف يُحْتَقَرُ اليهودُ والمسيحُ منهم وهو التزمَ بناموسهم. إنَّ الله أعطى وعدًا لإبراهيم، وكان مجيءُ المسيحِ مكمِّلاً لهذا الوعد، وحاملاً الغضب عن الساقطين الذين خانوا العهد مِنْ أولادِ إبراهيم. إنْ كان المسيحُ قد قَبِلَ اليهودَ والأمم، وصارَ الجميعُ واحدًا في المسيح، فليقبلْ كلُّ واحدٍ الآخر.
في النهاية نستطيعُ القولَ أنَّ سرَ المسيح بحسبِ بولسَ الرسول هو قبولُ الأممِ في الكنيسةِ مع اليهودِ الذين يؤمنون، أيّ أنْ يحيَا الكلُّ في محبةٍ وتوافُقٍ وانسجام. فنتغاضى عن الأشياء الصغيرة التي عند الضعفاءِ المتشكِّكِين حتى نكسبَهم للمسيح ولكنْ ليس على حسابِ الإيمان. فالكنيسةُ قد تجمَّعتْ مِنْ أممٍ ويهودٍ، وعلى كلِّ عضوٍ في الكنيسة أن يقبلَ الآخرَ بانفتاحِ قلبٍ محتملين ضعفَ الضعفاءِ أيًّا كان ماضيهم.
إنَّ الله قَبِلَ الأُمَمَ وهم مجَّدُوهُ بإيمانهم بالمسيح. مجّدُوهُ مِنْ أجلِ مراحِمِهِ لهم إذْ قَبِلَهُم ورحمهم. لقد صار الكلُّ بالمسيحِ شُركاءَ في آلامِ وفرحِ الكنيسة، وصاروا شركاءَ تسبيحٍ لله. إنَّ الله قَبِلَ اليهودَ والأُمَم، قَبِلَهُمَا كليهما، فعليهما إذًا أن يقبلوا بعضهما البعض ويعيشوا في محبّة. وإذَا امتلأ الجميعُ محبّة، فاضَ الروحُ القُدُسُ عليهم وملأهُم فرحًا ورجاءً.