رعيّة رشدبّين

Month: October 2018

إنّها الثقة

من منّا لم يسمع، على الأقلّ، إن لم يقرأ، مَثَل الوزنات؟ من منّا لم يأخذه بحرفيّته، مقاربًا إيّاه إلى الحياة اليوميّة، مستخلصًا منه عِبرة العين بالعين والسنّ بالسنّ؟ أمّا الصعوبة فتكمن في ما هو أبعد وأعمق.

إنّ كلمة الله لنا تختلف بمفهومها عمّا نقرأه حرفيًّا. نصّ متّى (25: 14-30)، يُظهر لنا، بمجمله، صورة الله الأب، الذي لم يشكّ في عبيده وأمانتهم. كانت ثقته بهم لا حدّ لها، لذلك سلّمهم أملاكه (الوزنات)، كلّ على قدر طاقته، وسافر، لا تهرّبًا بل إفساحًا بالمجال أمام أبنائه لعملٍ مسؤولٍ أكبر، وزيادة في فسحة حرّيتهم في التصرّف. لم يشترط عليهم كمّية الربح، كما وأنّه لم يلزمهم بوسيلة تعاملٍ محدّدة، لأنّه كان يدرك أنّهم أكفاء ونزهاء يستحقّون ثقته. فهو يعرف من هم وما هي قدراتهم، لذلك أعطى الأوّل خمس وزنات والثاني وزنتين أمّا الثالث فسلّمه وزنة واحدة كي لا يحرمه من الحظوة والمكافأة، إن استطاع أن يحسن إداء مهمّته!

هنا تبرز صورة الآب الكثير الرحمة، حيث المحبّة عنده، تتخطّى العدالة التي لم يرَها العبد الثالث، صاحب الوزنة الواحدة، بل على العكس، لقد رأى فيه صورة الدائن، القاسي القلب، الذي لايهتمّ إلاّ لجمع المال، قالبًا حقيقة الخَلْق رأسًا على عقب، بحسب تفكيره المحدود، جاعلاً الخالق على صورة الإنسان المخلوق ومثاله، مُلْبِسًا إيّاه ثوب طاغيةٍ مستبدّ. ثمّ حدّ تفكيره في منطق المديونيّة، لأنّه توقّف عند مَا سمعته أذناه دون أن يفهم طبيعة سيّده وكرمه وكثرة رأفته. لقد خافه دائمًا لذلك كان الأضعف بينهم. لم يرَ فيه صورة الأب الذي، إن أعطى ولده، وهبه بثقة وحرّية. خوفه حجب عنه الرؤيا الصحيحة، وجعله يتقوقع في محدوديته وجهله لمفهوم العطاء، فلم يؤمن به، ولم يعرف التعامل مع العطيّة بحسب ما لديه من مهارات، ولو كانت على”قدر حبّة الخردل”، فدفنها، محوّلاً إيّاها إلى وديعة للحفظ (“أخفيتُ وزنتك ودفنتها”)، فخسرها وخسر معها الحياة.

ربّما نحن أيضًا لا ننتبه انّنا سنَمْثُل يومًا أمام “السيّد عند عودته”، كالإبن الذي يفخر بما حقّقه من ربحٍ أثناء غياب أهله، مهما كان ضئيلاً. فقلّما يهمّ مقدار الوزنات التى ائتمنّا عليها، إنّما الأهمّ هو إرادتنا في جعل العطيّة تثمر، لأن النصيب الأفضل والمكافأة ينتظران كلّ الذين يجتهدون وينتجون في عملهم (“أيّها العبد الصالح…أدخل إلى فرح سيّدك”).

كذلك، على الأرحج، إنّ ما يشغل تفكيرنا أكثر هو عدم تساوي الحصص (الوزنات). وبحجّة الظلم يتحرّك فينا الشعور بالحسد من الذي اُعطي الوزنة الأكبر، فنصرخ لائمين: أين هي عدالتك يا الله؟! ثمّ نمضي في التهويل على رحمته وحكمته، ونُضْرِب عن الدأب والجدّ في العمل بما اُعْطِينا من نعم ومواهب، دافنين إيّاها في مقبرة “خوفنا من الخسارةِ” المستترِ بالغضب، حيث لا من حياة ولا من ثمار، فنكون بذلك قد حكمنا على أنفسنا بالعقم الأبديّ بعد فقداننا حتّى ما نملكه، ورمينا بأنفسنا في المتاهات العقيمة المظلمة، البعيدة كلّ البعد عن حضن الآب.

فلنواجه الآن خوفنا، ولنثق أن الله وضع تحت تصرّفنا كلّ ما في الأرض لخيرنا، واهبًا كلاًّ منّا عطيّة الحياة برأسمالٍ “طافحٍ مهزوز” من القدرات والهبات والمواهب، لا بل أعظم بكثير، وهبنا كلّ ما له، وحيده، يسوع في الأفخارستيا، كي يكون الحاضر دائمًا معنا، ممّا يسمح لنا بالإرتقاء نحو الأفضل والكسب الأكبر، فنصبح بذلك جزءاً من مشروع الحبّ في العالم.

لا نتردّدنّ إذن اليوم في المتاجرة الذكية الصحيحة بوزناتنا، لأنّه وثق بنا وآمن بقدراتنا، عطيّته الثمينة لكلٍّ منّا.

جاكي جوزيف ضوميط

إلى النور

هكذا هي الحياة التي ولَدَتنا في حضن المسيح، جميلة بحضور الخالق ورائعة بفيض حبّه علينا، لكنّها تحمل الكثير من الألم والمرارة. أمّا الرهان على الثبات فهو الإيمان بالخلاص بيسوع المسيح، والتحلّي بالوداعة والصبر والقدرة على الإحتمال التي هي من الرّوح القدس المقّوي والمدافع والرفيق حتى مجيء يوم الربّ.
مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ
• هؤلاء؟ أماتوا شعلة الحياة في قلوبهم واستسلموا لفكر الشرّ، فباتوا يأتمرون به لأنّهم فقدوا كلّ إدراكٍ وضميرٍ في داخلهم، معتقدين أنّ صورتهم تكتمل في قوّتهم على جذب الآخرين إلى حيث هم، فَشيّؤا لنا حبّ الله المجّاني واللامحدود، الّذي لا يعرف التراجع، “لِيُضِلُّوا (حتّى)الـمُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا”، ووضعوا برقعًا برّاقًا على وجهه (الحب) وذهبوا به إلى قلب البشرية يعرضون عريسهم المقنّع على جيلٍ بات بَعضه يتكاسل في عيش الوصايا وعلى رأسها المحبّة ويبحث عن إرضاء ذاته خارجًا عن الله، يرسمون لهم صورًا خياليّة عن ما يتنظرهم من جميل الحياة في اتباعهم، يوجّهوهم في طريق المادّة المادّيّة الملتوي، ثمّ، يدفعون بهم إلى مستنقع الشر النتن
• هؤلاء؟ قنّعوا الشرّ بستار سميكٍ سمَّوه “خير الإنسان” الباحث دومًا عن إرضاء “الأنا” فيه، ليشيحوا بفكره ونظره عن “الخير الأسمى” الّذي هو الله، فألبسوه ثوب التعصّب بإسم الدفاع عن الدّين، وحمّلوه البندقية والقنابل بحجّة محوِ الكفر. لقد نزعوا البراءة الطبيعيّة من حشى الأمّهات الضعيفات بأجنّتها مستغلّين ضعف بعضهنّ، واستبدلوها بحليب الحقد والبغض والإنتقام، فقطفنا جيلاً، منه من يقبل أن تقاوم عينه المخرز ولا يأبه وأصابعه تتراقص مفاصلها، أمّا الشريحة الأخرى تعيش حذرة من الغدر بالسلام الداخلي الّذي يتحلّون به وبالكلمة التي تنبض فيهم حياة. أيّة حياةٍ هذه؟ أيّ حبٍّ هذا الّذي لا يعرف الرحمة حتّى أنّ العدالة تودّ لو تنتحر أمامه في أغلب الأحيان؟
لقد أنبأتكم
عندما ترى الحجر يُرمى عليك يمكنك أن تتفاداه خاصّةً وأنت حاضرٌ في قلب الصراع. أليس هذا ما لفت يسوع أنظارنا إليه؟ لقد نبّهنا من كل تلك الشرور الآتية صوبنا وهدفها أن ترمينا أرضًا كي تنهشنا رويدًا رويدًا. أرادنا أن نبقى متيقّظين لأنّ يوم اللقاء يأتي دون إنذار، فكيف سنَمثل أمام الله في تلك اللحظة؟ هل ينفع ندم اللحظة الأخيرة وقتها؟ هل نحمل في جعبتنا أسفًا ويأسًا أم سلامًا وثباتا حتّى ولو كنّا مجروحين من الصعاب والتجارب المؤلمة والشرور؟ بماذا ينفع عولنا وبكاؤنا وارتجافنا خوفًا على مصيرنا؟
كلّنا نعلم أن الله واضحٌ في تعليمه وما يقوله يعلنه من “على السطوح”، فلا مُواربة ولا أقنعة ولا خجلٍ ولا محاباة فيه. لا نتذرّع إذًا بالمسيح كي نفعل ما يحلو لنا، بل من أولئك النسور القديسين الّذين يجتمون حول يسوع المصلوب كي يأخذوا منه القوّة والإنطلاقة نحو قيامةٍ أبديّةٍ ولا أروع في مجد الله الآب.
جاكي جوزيف ضوميط