حين تصدح قهقهات الأغنياء في آذان الفقراء، تُحتَبس غصّة الحرمان في النفس وتأبى الدمعة الكريمة أن تتدحرج من مقلتيّ من يتمنّى أن يأكل ممّا يُرمى في براميل القمامةّ. لربّما يُقال: “ما لنا وللغني، هذا ماله وهو حرّ التصرّف به” أو “ليس مضطرًا لمساعدة الفقير، فلِما لا يعمل ليكسب رزقه؟”، هذا من الناحية المادّية.
أمّا من النواحي الأخرى، النفسيّة والروحيّة، فهناك الفقر الأكبر والحاجة الملحّة. المسألة إذًا لا تتعلّق فقط بلقمة الفقير، بل بالفقير إلى الحبّ، إلى الإهتمام، إلى الإحساس بأنّه مرافَقٌ وبأنّه ليس وحده في محنته، وإلى ما هنالك من حالات فقرٍ مُدقَع حتّى داخل القصور والكنائس.
غنيٌّ فقير
على موائد الغنيّ (الفقير روحيًّا)، تتلاطم الأطباق والأطايب بعضها ببعض لتسحره، هو الّذي يعاني من فراغٍ ما في داخله، فيقيم الولائم للتعويض والشعور بقدرٍ أكبر من الأهميّةِ وكأنّ هذه الأخيرة تتغذّى من طعام الأرض، فيغرق فيها إلى درجة أنّه لا يعود يرى القابع على باب داره يستجدي اللقمة، لا بل ينسى الله وينسى شكره على كلّ ما وهبه من خير. وفي خزائنه يتصارع الحرير مع الأرجوان والفضّة مع الماس، أمّا هو فيطرب لشجارها وينام على أنينها الّذي يحسبه هدهدة الجارية لإبن الملك كي يغفو.
إنشغالاتٍ ومخطّطات سمّرته في قصر الولائم والثياب الفاخرة، في مساحةٍ أخذ الوقت فيها قيلولة لتتحوّل حياته إلى رتابة يومية مطلية باللؤلؤ الزائف، تكرّر نفسها مع كلّ إطلالة شمس.
وعلى باب القصر، يئنّ جوع لعازر الغني فيسكته بفتات الفقير وهو “يشتهي أن يشبع من فضلات مائدته”، متطلّعًا إليه بعينين تحكيان قصّته بالنظرات لعلّه يتذكّر أنه هو أيضًا إبنٌ لله وأنّ كلاهما على صورة الخالق ومثاله، فيرحم فقره.
لكنّ المسألة لم يفهمها، ولم يدرك أنها تقول “حيث يكون قلب الإنسان يكون كنزه”، لا بل أبعد من ذلك بكثير، لم يكتشف أنّها تجسّد المقدرة على الخروج من سجنه المنسوج بظروفه الماديّة والمعيشيّة حتّى ولو كانت أسلاكها من ذهب. لم يستطع أن يعرف بأنّها دعوة يوميّة إلى الحريّة واتّخاذ الموقف الواضح والثابت الّذي ينعش فيه روح البنوّة لله وينمي الرّجاء بلقاء الحبيب مع كلّ من كانوا حوله أو سبقوه إليه، دون إستثناء.
عندما تقرع أجراس الحزن على الأرض، هناك باب فرحٍ يُفتح في السماء.
عندما ترفع بعض الأيادي الفقيرة صندوقًا بالكاد “يكمش” نفسه كي يحمل جسد لِعازر كلّ عصر، هناك أجواقٌ من الملائكة تأتي لتستقبل من كان أمينًا على حبّ الله وكلمته خلال مسيرته الأرضية، فيدخله إلى فرحِ الحبيب الأبديّ.
وعندما تسير المواكب السّود وراء نعشٍ مذهّب وتطلق “النوبة” صراخها على فقدان الغنيّ – البخيل، صاحب الترف الأناني، هناك صراخٌ أشدّ ألمًا من الموت وصرير أسنانٍ لا يسمعه إلاّ من كان في الظلمة البرّانيّة، في الهوّة، يخرج من أعماقِ هذا الأخير الّذي لم يكترث لوجود الله في حياته وحياة من حوله.
هل يا ترى، لو تعرّف هذا الفقير بالروح على حقيقة الحبّ بين الآب والإبن في بوتقة الروح، وكيف يفرغ الآب ذاته في الإبن، والإبن بدوره يعيد ذاته إلى الآب بفعل شكرٍ في رقصة الحبّ الرائع المتكامل المستدام، ألن يشعر بصغره لِحياته اللامنظورة الّتي يحاول وضعها أحيانًا تحت خابية فقير أو محتاج، مُحاوِلةً سندها. ألن يفهم بالحري، أنّ فعل العطاء ما هو إلاّ إفراغ ذاتي بالملئ وبكلّ الحبّ كي أمتلئ بدوره بفرحٍ أكبر وحبٍّ أسمى.
ألن يبدأ مسيرته، بتوازنٍ دقيق على جسر العبور من الأنا إلى الآخر، من جيبه الغنيّ إلى قلبه الفقير، ومن بيت الترف إلى حضن الفقير. لو تعرفنا بدورنا إلى هذا الحب اللامتناهي، عندها، لن يبقى مثل لِعازر على شفاهنا بل سيدخل إلى حيّز التطبيق من خلال معناه “الله يساعد” من خلالي، من خلالك، من خلالنا جميعًا.
كلّ ما أتمنّاه اليوم هو الإيمان بالله الحاضر فيَّ وفيك الّذي به أتخطّى ذاتي وخوفي وفقري أيًّا كان نوعه، وأنسكب حبًّا في الآخر.
اليوم ونحن ما زلنا أحياء، دعونا نخرج من سجن ذاتيّتنا وندخل عالم الفقراء قبل أن ننتهي في القبر، فنجد أنفسنا مجرّدين من كلّ ما كنّا نتغنّى به، وقد فقدنا العزّ والجاه والشبع، وأصدقاء المناسبات والولائم والمصالح؛ ويكون قد فات الأوان على إكتشاف قيمة الحبّ والرحمة، وتكون الأرض قد تشبّثت بنا وإنتزعت منّا فرصة التنعم بلقيا العريس الّذي ينتظر. فلنعطِ إذًا ما للأرض للأرض وما للسماء للسماء.
فرح الأبرار والصديقين
كيف لنا أن نفرح فرح الأبرار والصديقين، ونحن نندب حظنا ونبحث في دهاليز ذاكرتنا عن خيبات منسية أو مهملة ثم نضيف إليها خيبة جديدة، ثم نحدق في المرايا لنرى إنعكاسها في وجوهنا المهشمة.
كيف لنا أن نفرح فرح الأبرار والصديقين، ونحن نقف في الطوابير الطويلة، ندخل في غيبوبة إنتظار مستحيل، ونحدق في أفق بعيد، عله ينجب لنا لحظة أمل تستند عليه قلوبنا.
أرواحنا عالقة .. سجينةْ، مكبلة بسلاسل دقت أوتادها في أعمق أعماقنا المظلمة وقلوبنا ترتجف كطائر ذبيح .. وترتعش أجسادنا وكأن صاعقة ضربتها، فتدور بنا الحياة دورة كاملة .. كاملة بلا نقص.
نعاند الراحة والفرح ونهادن الخلاص الذي يناديا منذ الأبد ونبحث عن الحزن والمعاناة
نتنفس بصعوبة بالغة، نعاند الراحة ثم نبحث عن مكان يمدنا بالهواء …
يرهقنا البحث
نستسلم كعادتنا. نستسلم عن ذواتنا، وعن إخوتنا الصغار في هذا العالم، فنقود بأنفسنا إلى يسار الآب حيث البكاء وصريف الأسنان.
نستسلم ثم نبحث في صناديقنا المهترئة عن أوراقنا البالية القديمة، نبحث فيها عن حلول تغرينا بالحياة من جديد.
نبحث بجدية مفرطة، وكلما ازداد بحثنا، إزداد شعورنا بالإحباط.
نحن لا نعترف بطريق الخلاص الحقيقي فكل منا مكبل بطريقه وخطاياه وشهواته.
حميعنا نؤله أنفسنا، نؤله ذواتنا ونجهض كل محاولة لنا لترميم دواخلنا، والتواصل مع الرب يسوع المسيح ونفضل البقاء مع ذواتنا المهمشة الغارقة في بحور أمواجها المتلاطمة.
نحن نعتقد بأننا نخسر أنفسنا عندما نسلمها للرب، هذا المجهول بنظرنا، الغامض والغريب
نرتاح مع أفكارنا الأنانية، مع رغباتنا، مع ألوهيتنا..
ثم سرعان ما نكتشف أن تلك الأفكار هي أفكار سوداوية، غارقة في ظلام دامس، قاتلة
يا لها من حياة نعلي فيها صروح الوهم، متجاهلين الواقع وبعيدين كل البعد عن حقيقة السعادة وعن سر الخلاص الحقيقي
ثم سرعان ما نعود إلى أنفسنا، متذبذبين بين رأي ورأي آخر، معتقدين بأننا ممسكين بزمام الحلول تارة، وبأننا فقدنا الشعور بها تارة أخرى.
ثم سرعان ما ندرك أننا على خطأ. سرعان ما تتفتح عيوننا على من هو أسمى وأعظم من بحر الضياع الذي كنا غارقين فيه
فنسرع راكضين بلهفة كالإبن الضال الذي استفاق من غيبوته، كالمنزوفة التي اكتشفت دواءها الوحيد، كالأعمى الذي أبصر نور الخلاص، كالمخلع الذي ركض بروح نحو الطبيب
ونقوم، مثلما أقام الرب لعازر وبنت يائيروس
نقوم من الموت ونحيا
وإذا تصفحنا الماضي، رأينا ااحاضر واستشرفنا المستقبل، نصل إلى خلاصة واحدة:
“أنا الإنسان، أنا من خلقني الله على صورته ومثاله، أنا الذي أحبني الله حتى الموت، ستقتلني الأنا.
أنا الإنسان الأناني في ماضي، أركع تحت قدميك يا رب، أرتوي منهما الحب وأصرخ: لم يعد بيدي حيلة، أسلمك حياتي!”
وعندها سأرى أنني سأصبح إلها بجانب الرب، فقد دعاني، هو بنفسه، للكمال، للؤلهية.
عندها سأرى الخلاص، سأرى السعادة
عندها، سأحيا مع الأبرار والصديقين في ملكوتك السماوي، إلى أبد الآبدين، آمين.
جاء الإنسان من بين يدي الله
جاء الإنسان من بين يدي الله آية الوجود لِما حمله من روحِ جابله وصورته ومثاله. ناظرًا ذاته فيها، أمنّه على كلّ ما خلق، محمّلاً إيّاه رسالة الحبّ الأعظم هامسًا في قلبه: كن الحبّ بذاته لكلّ إخوتك في المسكونة كلّها، وابنِ معهم ملكوت السّماء بحجارة المواهب المتنوّعة و”عَشِّقها” بالأمانة على المسؤوليّة. لكن إيّاك أن تبخل بالفرح في العطاءِ والسّهر الدّائم الجميل على ما قد يصبح لك يومًا أيّها الإبن الحبيب. أنت اليوم في جسدٍ قد يأخذ منه التّراب نصيبه امّا الحياة الّتي وهبتك لك، فلن تضيع أبدًا: لقد خلقتك للحياة لا للموت !…
نعم، لقد خلقنا الله للحياة لا للموت. فلإن كنّا لا نترجّى الحياة الدّائمة مع الله، بالطبع ليس لنا حتىّ أن نحبّ أنفسنا ولا فلذات أكبادنا، أولادنا، بالتالي كيف نحبّ البعيد إذًا؟ أمّا إن كنّا من الّذين يؤمنون بالحياة الأبديّة، فلكم هو عظيمٌ أن نكون متيقّظين حذرين من كلّ من يرغب في نهشِ ممتلكاتنا الّروحيّة: الحبّ، السّهر والتيقّظ، العمل بأمانةٍ وفرحٍ دائمين، ومشاطرة الآخر ما لدينا من هبات الخالق ومواهبه. فطوبى للمستعدّين للعمل، غير منقادين إلى طلب الرّاحة الكسولة، ولا قلقين من الظّروف الصعبة، خاصّة في أياّمنا هذه، حيث الذّئاب تملأ المسكونة، وتدخل حَرَمَك دون استئذان محاولةً افتراس أجنّة الخير فيك. طوبى لكلّ من يأخذ من سهر القلب والفكر والإرادة مسلكًا، مشمّرًا عن ساعديه، شاكلاً رداءه في نطاقه وفي يده مصباح الحكمة والتفكّر واليقظة: فما من ولادة دون مخاض، ولا من مياه دون نبع يشقّ الصخر مندفعًا.
ساهرًا كن وعيناك مفتوحتان على الطّريق، متحرّرًا من كلّ ما يثقل كاهلك كي تستطيع أن تكون في جهوزيّة دائمة للتحرّك بحُرّية، ورأسك مرفوع نحو السّماء، لا شيء يشدّك إلى الأسفل. لا تمضي وقتك في البحث عن الله كي يقدّم لك “الخدمات” والعون بل كن واثقًا أنّه يرافق كل خطوةٍ من خطواتك، يمسك بيدك الضعيفة ويسند ظهرك ولا تراه. إخدمه إذًا وكن طائعًا لما يفعله لك أيّها الإنسان الحبيب. كما لا تبحث عن ذاتك في كلماته ولا في سفر التكوين، لأنّ ظنّك سيخيب عندما لا ترى الصور الّتي خُلِقتَ عليها والّتي بدأتَ تفقدها بفعلك أيّ شيء يرضيك أنت خارج إرادته، “الفجر إلى النّجر”. ليس لك إلاّ أن تحبّ بصدقٍ ودونما قياس كل مل يحبّه هو، وإذا ما أردت أن تغفو فلا تفعلها إلاّ في أحضانه حيث الأمان، فتفرح كالطفل المتهادي على صدر أمّه الحنون بثقة وقد أخذ من روحها روح.
الرّب آتٍ آتٍ. “وكالسارق” سوف يحضر. فلماذا نخاف الموت ونضعه نصب أعيننا كالمُهَدّد ِالدّائم لراحتنا واستقرارنا؟ لماذا نخشى حكم الله إذا كنّا نعيش ومضات الحياة في نعمته؟ بالتأكيد سوف يضمّنا إلى صدره، يُقبِّلنا ويتقدّم لخدمتنا كما فعل أيّام تأنّسه وحلوله بالجسد بيننا، لأنّنا كنّا أمناء على بيته.
لا نتفاجأ إذًا إن كانت مخطّطاتنا تنقلب رأسًا على عقب يوم نكون في النّعمة، لأنّها ترى بعينه هو (عين الله) ما هو صالحٌ لنا فتؤتينا مشيئته الخيّرة مع البركة والثمار الوافرة فالحظوة عند الحبيب يوم عودته.
نثق ونؤمن
أن تشعر بأنَّ سُمّ الحيّة التي عضّتك يجري في عروقك، حتماً لَهُوَ اختبار مرعب وأنت تنتظر اقتراب أجَلِك…
تموت نفسيًّا قبل الجسد، عندما تبدأ بالتفكير في ما يجري لأعصابك التي تتشلّل شيئاً فشيئًا، ولدمك الّذي يتحوّل إلى حبرٍ أسود ليغزو كلّ مفاصل حيويتك وعقلك: قلقٌ، خوفٌ، يأسٌ فموت.
فمن منّا لم تعضّه الخطيئة؟ من منّا لم تتنازعه ميول الشرّ، فنحطّم ذواتنا والآخرين، عالمين في أعماقنا ماذا يجري داخلنا، وما هو مصيرنا؟
لكنّنا نستسلم لضعفنا فيُشَلُّ تفكيرنا ونتلاشى شيئًا فشيئًا حتّى موت النفس؛ ومتى ماتت تبطل حركتها، ولا تعد قادرة على النظر إلى الصليب الشافي، المجدّد، عندها يبدأ العالم المادّي الدنيويّ التحكّم بها فيقودها حيثما يشاء.
هلاّ فهمنا لِمَ طلب يسوع من نيقوديموس “الولادة الجديدة من علو؟”
لأنّه لم يرد لنا أن نتألّم في مهدنا بل أن نتعافى ونصبح خليقة متجدّدة بروحه القدّوس؛ لم يرد أن تسكن الخطيئة أجسادنا ونفوسنا فتميتها. أراد إفهامنا أنّ الدواء هو في قبول الإتّحاد بروحه كي نولد أطهارًا من جديد.
في عصرنا الحاضر نرى الدنيا والمادة آخذة بالمسيحيّين إلى أبعد من أن يأملوا “بالولادة من علو”. سبب أساسي كي يخمد فينا الروح وتتلاشى القوّة والشجاعة كي ننطلق ونجّدد هذا العالم بالأخوّة والمحبّة.
ترى إنسان اليوم يتكلّم عن الله دون أن يتكلّم إليه، يخبر عنه وهو لم يختبره.
لماذا؟
لأنّه حفظ ما حفظه من عبادات وصلوات وواجبات دينيّة في مكانٍ ما من ذاكرته وانفتح على كلّ شيء ما عدا روح الله كي يحيي ما حفظه فيصبح “كصنجٍ يطنّ وجرسٍ يرنّ”، وقلبه متحجّرًا.
مثل نيقوديموس، نأتي أحيانًا إلى الله لأنّنا رأينا ما صنع من عجائب وآيات لكنّنا نلتحِفُ بالليل كي لا يرانا الآخرون فينعتوننا “بالبسطاء”: ويلٌ لنا إن علموا بأمرنا، ورغبتنا المتأرجحة في اكتشاف الحقّ والحقيقة في المسيح لا تجرؤ على الخروج إلى النور (العَلَنْ).
ألا نؤمن بأنّ المسيح ومَنْ بعده مِنَ الرسل والقدّيسين هم من جعلونا نكتشف بأنّ روح الحبّ والحقّ هما يحرّرانا، ويجعلا منّا أبناءً أُمَناء أحبّاء يفرحون بلقاء الله الأب والآب؟
ألا نثق بوعوده لنا، وبأنّ إرادته، بفعل الحبّ لشخصنا، هي انتشالنا من هوّة العبوديّة للإنسان القديم والخوف من الدينونة رافعًا إيّانا صوب قلبه، صوب الفرح الحقيقي والحرّية الحقيقية والحبّ الصادق والمسؤول؟
ألا نثق بأنّ في هذه الولادة طفولة روحيّة تكبر بالنعمة والقامة والحكمة في المسيح، حيث في كلّ يوم هناك انطلاقة جديدة نحو الأفضل والأكمل، نحو مسامحةٍ أكبر واحتضانٍ أعظم؟
لنقف وقفة تأمّل في ما يجري داخلنا ومن حولنا، ولْنُصَلِّ لنيل هبة الروح كي نولد من جديد ونتحرّر من مخاوفنا، ونستفيق من كبوتنا العميقة التي أخذتنا بعيدًا، في الأحلام، عن واقعنا كأبناءٍ للآب. لنبحث عن نظرة البنوّة تلك إلى الله، فإنّها وسط “عجقة” الشعارات والإيديولوجيّات والمعتقدات والعصبيّات الدينيّة المتنازعة فيما بينها. لأجل خيرنا فلنتسلّح بالشجاعة ونطلق الروح يعمل فينا كي نشهد للحقّ والخير والحبّ.
أمّا نحن الشباب، فمن المهمّ بمكانٍ أن نعرف بمن علينا أن نثق ونؤمن. علينا أن نملأ فراغ المجتمع بالأعمال التي تبني الإنسان وتنمّي فيه الحبّ وننفتح على قبول الآخر.
فلنأخذ موعدًا مع الربّ اليوم فنحن “مولودون منذ هذه اللحظة من علو” وسنكون أصحاب المستقبل في المجتمع الخَيَّر والكنيسة المتجدّدة، آمين.
قداس تجديد الوعد
المرحومة ترازيا يعقوب يعقوب
في البدءِ كان كلمة. بل، في البدءِ كان الكلمة
عُرِفَ كونه الوحيد، كونه الأساس،
عُرِفَ كونه حي في البدءِ، منذ البدء، حتى انقِضاءِ الدهر.
كلمةٌ، و ما أعظمَ ذاك الكلمة. الكلمة أصبح كلمة معاشة، أصبح حياة.
كلمةٌ به كان الكونُ، فيه اختَبأت أسراره، بحروفِه رُسمتِ السماءُ وتَزينتِ النجومُ بأبهى حُلّتها لتلمعَ عاليًا في فضاءٍ شاسعٍ حملَ بأحضانِه شتى الغرائِبِ، أعظمَ الأسرار.
كلمةٌ تَدحرَجَ من كافِه الأرضُ، تلكَ الأرض التي علتها الجبال كاللام الشامخةِ، حَفرَت في تُرابها وديانَ بعمق الميمِ، وبطرف التاءِ جمعَت عناصر شتى.
كلمة كان حياة. فيه كانت الحياة.
كلمةٌ نَفخَ في التراب، ومن اللاشيء أصبح كل شيء موجود. كان إنسانٌ على صورتِه ومثالِه.
لم تَحدّه فاصلةُ الخوفَ أو توقِفه نقطةُ الموتِ.
بهويتِه تخطَّى كلَّ الصعاب. سلاحُه هويتُه، الحبٌ سلاحُه، فكان هو الحبُ.
بسلاحِه خرجَ من قلمِ الكاتِب العظيمِ، أبِ الكلمةِ، منهُ خرجَ، نالَ بركةَ مكمِّل الثالوثِ، كسرَ حواجزَ ما بين العالمَين ليصلَ إلى بيتِها المظلمِ بحلّةٍ تشبِهُ حلّةَ سكانِه.
بيته لم يعرفه..
كان بيتًا مرصعًا بالذهب من الخارج، وبحجارةٍ شاحبةٍ تبعث بالكآبةِ من الداخل. الشبابيك معتمة والباب مغلق ساكن. كان بيتًا كئيبًا حزينًا كسكانِه.
دخلَه وأعاد الحياةَ إليه. غمرَ أهلَهُ بسلاحِه العظيم، أحيَاهُم من جديد. غمرَهم بحنانِه الفائِق ونعَمه الغزيرة. شفَى المرضى منهم، فأبصرَ العميانُ تكلمَ البكم وسمعَ الصم، أعْطَى لمن عرفه حظوةً في دهاليزِ العالمِ الثاني، جعلهُم أبناءَ الكاتِب الأكبر .
كان الموتُ سيدَ البيتِ الكئيب، الذي يخشاهُ الجميع، فتخلَّى عن كل حرفٍ منها، جمعهُم صليبًا، غلبَ به الموتَ وأعطى من خلالِه حياةً أبدية لسكان البيت، يعيشونها تحت سقف حروفه الحية.
في البدء كان الكلمة، به كان كل شيء، بدونه ما كان شيء مما كان.
في البدء كان الكلمة، كلمة حية
في البدء، منذ البدء، حتى انقضاء الدهر..
فكيف نعيش كأُناسٍ أخذنا ذاك الكلمة؟ هل نتصرّف ونتكلّم ونتحرّك بجسدٍ هو هيكل للروح القدس؟ هذا الروح الّذي أُعطيَ لنا كي ننادي به الله “أبّا”. هل ندعه يحرّك منّا القلب والعقل واللسان؟ إنّه القوّة وطاقة الحياة الألهيّة فينا. هو من يجعلنا نعرف أنّ يسوع الحمل رفع خطيئتنا كي يريح كاهلنا، فنرتاح ونتذوّق الحياة الجديدة المملؤة سلامًا وفرحًا ومصالحة. هو من يجعلنا نفهم مكنونات قلبه وحقيقة أنّنا محبوبين مثلما هو محبوب من أبيه. فهل نحن نؤمن بهذا؟
هذا ما يريدنا الله أن نراه من حقيقةٍ بثقةٍ كاملة… ورغم كوننا خطأة وضعفاء، فنحن مخلَّصون إن آمنّا بهذا الحبّ العظيم وبابنه”حمل الله” يسوع.
أرسلت يوحنّا يُعد الطريق لابنك فسَمّيتَ لَه كارِزًا في الأرض…
فالشّكر لَكَ أيّها الآب…
أسْمَعتَ العالَمَ صَوتَكَ، صَوت الرِّضَى، فَكُنتَ لهُ كارِزًا سَماوِيًّا…
فالشّكر لك أيّها الأب…
دَلّ عليك يوحنّا وأعلن أنّك الحمل الطّاهر الذي يحمل خطيئة العالم، فصرت لنا الحُبّ الغافر…
فالشّكر لك أيها الإبن…
كَسَرتَ لَنا خُبزًا أرضيًّا فأشبعتَ أجسادنا الميتة، وَكَسَرت لنا خبزًا سماويًّا يُشبِعُ أرواحَنا العَطشَى…
فالشّكر لك أيّها الإبن،
ظهَرْتَ فوق نهر الأردنّ على شكل حمامة كلّلَتِ السماء بالمجدِ والنورِ…
فالشّكر لك أيّها الروح القدس، جمعتنا
وجعلْتَنا أبناء الله وخلقت عطشًا عميقًا لحبِّ الله في قلوبنا…
فالشّكر لك أيّها الروح القدس،
لك الشكر والحمد والسجود، أيّها الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، من الآن وإلى الأبد، آمين.
المرحومة سيدة يوسف جرجي أرملة المرحوم مخايل أنطونيوس إبراهيم
المرحومة مرون يعقوب شليطا أرملة المرحوم بشير ضوميط شعنين
هذه خرافي
“أعرف خرافي”
في ذاك اليوم، يوم “عيد التجديد”، أطلق يسوع وثيقة الحياة الأبديّة لكلّ من يتبعه بالفكر والفعل والقلب واللّسان، وثيقة بنودها الحرّية، الثقة، الإصغاء، البصيرة، الأمانة، الفرح.
هؤلاء “الخراف” الّذين تبعوه وما زالوا يتبعونه، هم أشخاص رأوا علاماتٍ في حياة المسيح، ذهبت بهم إلى أبعد من ذاتهم، أبعد من تفكيرهم الشخصي المحدود، لتوصلهم إلى حقيقةٍ ذات معنى عميق، معنى روحي لا يدركه عقلنا البشري، ففُتِحت بصيرتهم على بداية ميسرةٍ جديدة نحو حياة أفضل وفرح داخلي أكبر مع الجميع، وسلامٍ عميق واثق، جعلهم يدركون أنهم أُخْرِجوا من ظلمة ماضيهم إلى نور الحاضر والمستقبل، إلى الملكوت، إلى حضن الإبن الحبيب الذي لنا فيه الفداء.
هم أشخاص فهموا أن الغاية من كلامه وأفعاله كانت لتظهر تمام إكتماله، وأنه هو هو بالملء، وأنّهم، هم أيضًا مدعوّون للنمو في هذا الإكتمال خلال مسيرتهم بكلّ كيانهم: نفسًا، روحًا وجسدًا، كي تعيش كلمة الحقّ فيهم وتثمر أفعال حبٍّ وتواضعٍ ورحمةٍ تفيض على من حولهم.
“لا يخطفها أحدٌ مني”
هذا ما يحدث مع من يختار يسوع حبيبًا وراعيًا لحياته. لا يعودوا خائفين من المثول، كما هم، أمام حقيقة الله، الحقيقة التي قبلتهم بجروحاتهم وخيبات أملهم، بضعوفاتهم وزلاتهم حتى بخطاياهم وما نتج عنها. لقد إختاروا المخلّص بكلّ جوارحهم وكيانهم، بملء حرّيتهم، بملء ثقتهم به، بملء بصيرتهم المفتوحة عليه، وإكتشفوا حقيقة بؤسهم أمام رحمة الله الحقيقيّة المجّانيّة، الذي ليس له رغبة سوى أن يشفي أعماقنا من كل أثمٍ وسوءٍ نال من حياتنا وجرّها إلى الألم. هم الّذين قبلوا بمشروعه الخلاصيّ لحياتهم، مشروع الحبّ الأبوي الّذي، بغفرانه، قوّى عزيمتنا نازعًا عنّا “الزّقاق القديم” الّذي لم نحصد منه سوى الحزن والمرارة ووجعه.
فهل يستطيع بعدُ أحدٌ أن يخطف هؤلاء الخراف منه؟ مستحيل، لأن الّذي زرع القمح لا يحصد مطلقًا الزؤان والّذي وجد نبع الحياة في صحرائه، بالطبع سوف لن يتخلى عنه، وما من أحدٍ يستطيع أن ينتزعه منه.
ربي وإلهي … لو أردتُ أن أبوح بسرِّك لمن لا يعرِفُك فسأقول لهم:
تعالوا إليَّ وإسمعوا ما فَعلَهُ الربُّ بي
مسَحَ دمعَ مُقلتي وفتحَ لي جنّتي
فخطيئتي قد مُسِحَتْ وخلاصِيَ أُعْطِيَ لي
بصليبٍ مُحتقَرُ وحَمَلٍ لا عيبَ فيه
ماتَ لأجلي دونَ جَدَلْ مُسْتَسْلِمًا لمَحَبَّتي
تجسَّدَ من غيرِ أبْ من عذراءٍ في بيتِ لحم
غَدَا لي قوتًا مُشبِعًا كلَّ يومٍ مُتجدِّدِ
سرٌّ عجيبٌ للأبدْ إختلفوا على فِهْمِهِ
وأرسلَ لِيَ الروح يُعمِّدُني ويُثبِّتُني
يفيضُ بقلبي محبّةً لأحْيا مَعهُ للأبدِ
ربي وإلهي … يا أيها الراعي الصالح، يا أبي السماوي الّذي من محبتك لي لن تتخلّى عني، أشكرك من كلّ قلبي على الدوام فأنا أعرف أنني كلّ يوم أبتعد عنك وكلّ يوم تُعيدُني إليكَ، تُمسك بيدي وتُطعمني بنورك البهي كالنبتة الصغيرة التي تحتاج للنور لتتغذّى وتكبر، يأتي عليها الظلام فتنام ثم تُشرق الشمس فتستيقظ وتتغذّى وتنمو لتصبح مرعًى خصب أو شجرة مثمرة مُشبعة للجياع أو ذات أغصانٍ كثيفة وطويلة يجلس تحتها المُتعبين.
ربي وإلهي … هل أنا فعلاً كذلك أم أحتاج لسنين وسنين؟ ربي وإلهي … أنا أود ذلك فأُسلّم لك قلبي حُبًّا بك وأنا كلّي إيمان وثقة بأنك ستغيّره مجدًا لك فأنا منك ولك. ولك الشكر على الدوام، آمين.








