نثق ونؤمن
أن تشعر بأنَّ سُمّ الحيّة التي عضّتك يجري في عروقك، حتماً لَهُوَ اختبار مرعب وأنت تنتظر اقتراب أجَلِك…
تموت نفسيًّا قبل الجسد، عندما تبدأ بالتفكير في ما يجري لأعصابك التي تتشلّل شيئاً فشيئًا، ولدمك الّذي يتحوّل إلى حبرٍ أسود ليغزو كلّ مفاصل حيويتك وعقلك: قلقٌ، خوفٌ، يأسٌ فموت.
فمن منّا لم تعضّه الخطيئة؟ من منّا لم تتنازعه ميول الشرّ، فنحطّم ذواتنا والآخرين، عالمين في أعماقنا ماذا يجري داخلنا، وما هو مصيرنا؟
لكنّنا نستسلم لضعفنا فيُشَلُّ تفكيرنا ونتلاشى شيئًا فشيئًا حتّى موت النفس؛ ومتى ماتت تبطل حركتها، ولا تعد قادرة على النظر إلى الصليب الشافي، المجدّد، عندها يبدأ العالم المادّي الدنيويّ التحكّم بها فيقودها حيثما يشاء.
هلاّ فهمنا لِمَ طلب يسوع من نيقوديموس “الولادة الجديدة من علو؟”
لأنّه لم يرد لنا أن نتألّم في مهدنا بل أن نتعافى ونصبح خليقة متجدّدة بروحه القدّوس؛ لم يرد أن تسكن الخطيئة أجسادنا ونفوسنا فتميتها. أراد إفهامنا أنّ الدواء هو في قبول الإتّحاد بروحه كي نولد أطهارًا من جديد.
في عصرنا الحاضر نرى الدنيا والمادة آخذة بالمسيحيّين إلى أبعد من أن يأملوا “بالولادة من علو”. سبب أساسي كي يخمد فينا الروح وتتلاشى القوّة والشجاعة كي ننطلق ونجّدد هذا العالم بالأخوّة والمحبّة.
ترى إنسان اليوم يتكلّم عن الله دون أن يتكلّم إليه، يخبر عنه وهو لم يختبره.
لماذا؟
لأنّه حفظ ما حفظه من عبادات وصلوات وواجبات دينيّة في مكانٍ ما من ذاكرته وانفتح على كلّ شيء ما عدا روح الله كي يحيي ما حفظه فيصبح “كصنجٍ يطنّ وجرسٍ يرنّ”، وقلبه متحجّرًا.
مثل نيقوديموس، نأتي أحيانًا إلى الله لأنّنا رأينا ما صنع من عجائب وآيات لكنّنا نلتحِفُ بالليل كي لا يرانا الآخرون فينعتوننا “بالبسطاء”: ويلٌ لنا إن علموا بأمرنا، ورغبتنا المتأرجحة في اكتشاف الحقّ والحقيقة في المسيح لا تجرؤ على الخروج إلى النور (العَلَنْ).
ألا نؤمن بأنّ المسيح ومَنْ بعده مِنَ الرسل والقدّيسين هم من جعلونا نكتشف بأنّ روح الحبّ والحقّ هما يحرّرانا، ويجعلا منّا أبناءً أُمَناء أحبّاء يفرحون بلقاء الله الأب والآب؟
ألا نثق بوعوده لنا، وبأنّ إرادته، بفعل الحبّ لشخصنا، هي انتشالنا من هوّة العبوديّة للإنسان القديم والخوف من الدينونة رافعًا إيّانا صوب قلبه، صوب الفرح الحقيقي والحرّية الحقيقية والحبّ الصادق والمسؤول؟
ألا نثق بأنّ في هذه الولادة طفولة روحيّة تكبر بالنعمة والقامة والحكمة في المسيح، حيث في كلّ يوم هناك انطلاقة جديدة نحو الأفضل والأكمل، نحو مسامحةٍ أكبر واحتضانٍ أعظم؟
لنقف وقفة تأمّل في ما يجري داخلنا ومن حولنا، ولْنُصَلِّ لنيل هبة الروح كي نولد من جديد ونتحرّر من مخاوفنا، ونستفيق من كبوتنا العميقة التي أخذتنا بعيدًا، في الأحلام، عن واقعنا كأبناءٍ للآب. لنبحث عن نظرة البنوّة تلك إلى الله، فإنّها وسط “عجقة” الشعارات والإيديولوجيّات والمعتقدات والعصبيّات الدينيّة المتنازعة فيما بينها. لأجل خيرنا فلنتسلّح بالشجاعة ونطلق الروح يعمل فينا كي نشهد للحقّ والخير والحبّ.
أمّا نحن الشباب، فمن المهمّ بمكانٍ أن نعرف بمن علينا أن نثق ونؤمن. علينا أن نملأ فراغ المجتمع بالأعمال التي تبني الإنسان وتنمّي فيه الحبّ وننفتح على قبول الآخر.
فلنأخذ موعدًا مع الربّ اليوم فنحن “مولودون منذ هذه اللحظة من علو” وسنكون أصحاب المستقبل في المجتمع الخَيَّر والكنيسة المتجدّدة، آمين.