إنّها الثقة
من منّا لم يسمع، على الأقلّ، إن لم يقرأ، مَثَل الوزنات؟ من منّا لم يأخذه بحرفيّته، مقاربًا إيّاه إلى الحياة اليوميّة، مستخلصًا منه عِبرة العين بالعين والسنّ بالسنّ؟ أمّا الصعوبة فتكمن في ما هو أبعد وأعمق.
إنّ كلمة الله لنا تختلف بمفهومها عمّا نقرأه حرفيًّا. نصّ متّى (25: 14-30)، يُظهر لنا، بمجمله، صورة الله الأب، الذي لم يشكّ في عبيده وأمانتهم. كانت ثقته بهم لا حدّ لها، لذلك سلّمهم أملاكه (الوزنات)، كلّ على قدر طاقته، وسافر، لا تهرّبًا بل إفساحًا بالمجال أمام أبنائه لعملٍ مسؤولٍ أكبر، وزيادة في فسحة حرّيتهم في التصرّف. لم يشترط عليهم كمّية الربح، كما وأنّه لم يلزمهم بوسيلة تعاملٍ محدّدة، لأنّه كان يدرك أنّهم أكفاء ونزهاء يستحقّون ثقته. فهو يعرف من هم وما هي قدراتهم، لذلك أعطى الأوّل خمس وزنات والثاني وزنتين أمّا الثالث فسلّمه وزنة واحدة كي لا يحرمه من الحظوة والمكافأة، إن استطاع أن يحسن إداء مهمّته!
هنا تبرز صورة الآب الكثير الرحمة، حيث المحبّة عنده، تتخطّى العدالة التي لم يرَها العبد الثالث، صاحب الوزنة الواحدة، بل على العكس، لقد رأى فيه صورة الدائن، القاسي القلب، الذي لايهتمّ إلاّ لجمع المال، قالبًا حقيقة الخَلْق رأسًا على عقب، بحسب تفكيره المحدود، جاعلاً الخالق على صورة الإنسان المخلوق ومثاله، مُلْبِسًا إيّاه ثوب طاغيةٍ مستبدّ. ثمّ حدّ تفكيره في منطق المديونيّة، لأنّه توقّف عند مَا سمعته أذناه دون أن يفهم طبيعة سيّده وكرمه وكثرة رأفته. لقد خافه دائمًا لذلك كان الأضعف بينهم. لم يرَ فيه صورة الأب الذي، إن أعطى ولده، وهبه بثقة وحرّية. خوفه حجب عنه الرؤيا الصحيحة، وجعله يتقوقع في محدوديته وجهله لمفهوم العطاء، فلم يؤمن به، ولم يعرف التعامل مع العطيّة بحسب ما لديه من مهارات، ولو كانت على”قدر حبّة الخردل”، فدفنها، محوّلاً إيّاها إلى وديعة للحفظ (“أخفيتُ وزنتك ودفنتها”)، فخسرها وخسر معها الحياة.
ربّما نحن أيضًا لا ننتبه انّنا سنَمْثُل يومًا أمام “السيّد عند عودته”، كالإبن الذي يفخر بما حقّقه من ربحٍ أثناء غياب أهله، مهما كان ضئيلاً. فقلّما يهمّ مقدار الوزنات التى ائتمنّا عليها، إنّما الأهمّ هو إرادتنا في جعل العطيّة تثمر، لأن النصيب الأفضل والمكافأة ينتظران كلّ الذين يجتهدون وينتجون في عملهم (“أيّها العبد الصالح…أدخل إلى فرح سيّدك”).
كذلك، على الأرحج، إنّ ما يشغل تفكيرنا أكثر هو عدم تساوي الحصص (الوزنات). وبحجّة الظلم يتحرّك فينا الشعور بالحسد من الذي اُعطي الوزنة الأكبر، فنصرخ لائمين: أين هي عدالتك يا الله؟! ثمّ نمضي في التهويل على رحمته وحكمته، ونُضْرِب عن الدأب والجدّ في العمل بما اُعْطِينا من نعم ومواهب، دافنين إيّاها في مقبرة “خوفنا من الخسارةِ” المستترِ بالغضب، حيث لا من حياة ولا من ثمار، فنكون بذلك قد حكمنا على أنفسنا بالعقم الأبديّ بعد فقداننا حتّى ما نملكه، ورمينا بأنفسنا في المتاهات العقيمة المظلمة، البعيدة كلّ البعد عن حضن الآب.
فلنواجه الآن خوفنا، ولنثق أن الله وضع تحت تصرّفنا كلّ ما في الأرض لخيرنا، واهبًا كلاًّ منّا عطيّة الحياة برأسمالٍ “طافحٍ مهزوز” من القدرات والهبات والمواهب، لا بل أعظم بكثير، وهبنا كلّ ما له، وحيده، يسوع في الأفخارستيا، كي يكون الحاضر دائمًا معنا، ممّا يسمح لنا بالإرتقاء نحو الأفضل والكسب الأكبر، فنصبح بذلك جزءاً من مشروع الحبّ في العالم.
لا نتردّدنّ إذن اليوم في المتاجرة الذكية الصحيحة بوزناتنا، لأنّه وثق بنا وآمن بقدراتنا، عطيّته الثمينة لكلٍّ منّا.