!لنَكُن القريب
كم حاولت أن أفهم سبب قساوة قلب الإنسان تجاه الآخر، لكنّ الجواب كان دائمًا يصطدم بالـ “أنا” الّتي لا تملّ من التبرير بأنها وحدها تُكوِّن عالم المرء، وأنّه لا قِيَم خارج الذّات، مهما كانت كبيرة وتوحي بالكفاية، يمكنها أن تُحتَسب أو تُقاس إلاّ بقدر ما تتلاءم مع عالمي الخاص، مع مملكتي، حيث أنا السيّد، سيّد نفسي، والّذي يشكّل قيمتي هي ذاتي وحدها والّتي هي مُلكي.
من هنا بدأت أتلمّس طريقة تفكير هؤلاء الناس الّذين لا يكترثون للرحمة ولا للحبّ المجّاني نحو الآخر، إذ بحسب إعتقادهم أنّ ذلك ضربٌ من الجنون وفيه الكثير من المخاطرة وكأنّ ذلك الفعل هو قفزة في المجهول تدفعك إلى التخلّي عن ذاتك، عن الأنا، من أجلِ فعلِ رحمة وحبٍّ للآخر لا يجلبان إلاّ الإنقاص من “الكرامة” ولا يسبّبان سوى هدر للوقت والتلهّي عن الأهمّ.
في قصّة السامري الصالح، نرى أنّه كان هناك جريحًا مضرجًا بالدماء معرّى من ثيابه، مرميًّا على حافّة الطريق. يمرّ به كاهنًا ثم لاويًّا – ومن الطبيعي أن يكونا متخصّصان في الليتورجيا وطاعة كلّ ما تطلبه الشريعة – لكنّهما لم يكترثا لأمره، بل حادا عنه ولم يرمش لهما جفن. هما يعرفان تمامًا أنّه بمجرّد لمسه سوف يتدنّسان (بحسب الشريعة)، فلم ينظرا إليه كإنسان فيه من روح الله الّذي يعبدانه، وتناسيا أنّ الوصيّة الثانية من وصايا الله هي “أحبب قريبك حبّك لنفسك”، فلم يحفظا منها سوى “أحبب نفسك” وأغمضا أعينهما عن “القريب” وأكملا طريقهما لا لخدمة الله الحقيقيّة بل لإرضاء الأنا والكبرياء فيهما، فطهارتهما كانت لهما أهمّ بكثير من روح الإنسان المتألّم، المجروح، المحتاج لمن يقف بجانبه…
أمّا السامريّ فتوقّف وإعتنى بجراحات هذا الرجل.
لم يجلس للتفكير في مساعدته، ولم يتردّد في النزول إليه ليضمّد ويبلسم، ليغمره بالحبّ ويعوّض عليه فجور اللصوص وقساوة قلب من يحسبون أنفسهم أنقياء. لماذا فعل ذلك؟ ربّما ليس لديه الجواب إن سألت. لكن بالنسبة إليه هذا أمر طبيعيّ لم تعلّمه إيّاه الشريعة لأنّه ليس بيهوديّ، بل كان ما فعله ثمرة الحقيقة الطيّبة المحفورة في قلبه وقلب كلّ إنسان منذ تكوّن، حقيقة أن يكون هو القريب لكلّ من يلتقيه ويقبل به، فكان ذاته كما أراده الله أن يكون.
أليس هذا هو الحبّ الحقيقي؟ أليس هذا هو الإيمان بالكلمة المحيية بالفعل وبالقول؟ ألا نرى في هذا الرجل المجروح كلّ إنسان وكلّ الإنسان لا بل الإنسانيّة جمعاء، بكلّ ما فيها من جراح ونقائص؟
والسامريّ! أليس هو يسوع الّذي جعل ذاته “القريب” الّذي يحبّ ويشفي ويعتني؟ أليس هو من يضع ثقته في الآخر كي يكمل ما قد بدأه: يؤمّنه على أخيه الإنسان الضعيف… ويطلب منه أن يفعل ويكون “القريب”، على مثاله؟
فإن كنّا نؤمن بأنّنا أبناء لله- المحبّة، المخلوقين على صورته ومثاله، وإن كنّا نؤمن بأنّنا سرّه الأجمل والأقرباء الوارثين، فلنثق بأنّ ليس هناك من مكانٍ أروع من الإنسان (“القريب”) يتفجّر فيه حبّنا المنطلق من قلب الله نحو قلب الإنسان في حركة تناغمٍ تتخطّى الأنا، قلّما نفهمها إن لم ندخل فيها بعمق.
ربي وإلهي … رقصَ قلبي اليوم فَرَحًا حين علمتُ أن مواهب روحك القدّوس هي ليست فقط لباسٌ أرتديه لأُحارب به إبليس وأعوانه ولكنها قَبْلَ ذلك هي وسيلة عيش “المحبة”، هي ثوب البر الّذي يجعلُ مَن يراني يُميّزني بأنني أنتمي لك فأنت “محبة”. فروح المعرفة تُعلِّمني المغفرة والرحمة تجاه الآخرين، وروح الحكمة تُعلِّمني التواضع والإقرار بخطيئتي نحوك ونحو الآخرين، وروح المشورة الصالحة تُعلِّمني تعزية الحزانى ومحبة القريب، وروح المثابرة والجَلَد تُعلِّمني الشوق لكَ والعطش للبِر، وروح الفهم وروح التقوى تعلِّماني الوداعة والثقة بكَ وتسليم الذات لكَ، أما روح مخافة الله فتُعلِّمني أن أحبك فوق كل شيء وأعمل مشيئتك بنشر المحبة والسلام. أجل، إن الروح القدس الّذي وَهبته لنا لتفيض محبتك في قلوبنا يجعلنا جسدًا واحدًا بروحٍ واحدة: روح إبنك الحبيب، روح “محبة”.
ربي وإلهي … أشكرك مِن كل قلبي على كل نعمك التي أعطيتنا إيّاها مجانًا، وعلى رحمتك التي بها تتحنّن علينا وتستجيب لطلباتنا، أشكرك لأنك إله محبة ولم تتردد في أن تُرسل لنا كنزك الثمين لتملأ قلوبنا من ذاتك… يا رب، أود أن تتحنن علينا الآن وتستجيب لنا بحسب مشيئتك، فلقد مرَرْتُ بشوارع العالم ورأيت الكثيرين على الطرقات، هم أموات لا أعلم أم قد أدمتهم جراحات الخطيئة لا أعلم، ولكني أود أن أُخبرهم عنك وأُعطيهم مما أعطيتني إياه وأجلبهم لكَ لتعيد لهم الحياة وتضمّد بيدك جراحاتهم فتسكب عليهم من روحك القدّوس فيُخلقوا من جديد… يا رب، يا مَن سترت عيوبي إستجب لي وأنا سأشكرك على الدوام وأُسبح أسمك القدّوس وأُخبّر بما فعلته لي وبمحبتك لي بأعمالٍ تُرضي إرادتك المجيدة، آمين.