رعيّة رشدبّين

!ألله محبّة

قصّة ما زالت تشعرنا حتّى اليوم بطابعها الغريب، الخارج عن نطاق اللياقات عند الأشخاص “المحترمين”.
نشتمّ فيها رائحة الجسد وطعم الشهوة في عطر تلك المرأة وشعرها. دموعها وسلوكها العاطفيّ يأخذ العقل والتصوّر في رحلةٍ إلى مخدعها، حيث عشعشت فيه الخطيئة لسنوات.
أمّا عمق هذه القصّة، فهي محضُ روحيّة، وثمرتها توبة “جنونيّة”!
إنّها تجعلنا نرى فيها نوعًا من شعائر يؤدّيها أيّ خاطئ يتوب حقًّا عن آثامه: لقد سجدت تبكي معاصيها بصمتٍ، تعترف -معانةً بدموعها- توبتها العميقة. أسدلت شعرها، مفخرة ما كانت عليه، وبدأت تلفّ به قدميّ يسوعَ خاشعةً، متعبّدةً… فيكمل يسوع بتهيئة ذبيحته الآتية، واعظًا، بمثل المديونين، الجماعة المذهولة أمام ما يحدث، ويفتح أعينهم على محبّة الاب في فيض نعمه الكثيرة في المسامحة والمغفرة. وأخيرًا يشجّع تلك الآتية بكلّ ثقةٍ وأيمان، دون أن يمسّ كرامتها بحرفٍ أو بكلمة، بل يتركها تذهب بسلام، مُصالحةً مع ذاتها ومع يسوع.سمعان الفرّيسيّ لم يرَ إلاّ فعلاً ساقطًا قامت به “الخاطئة”. أمّا يسوع، فلم ينظر إلاّ إلى قلبها المنسحق الصادق. لم يشعرها بالخجل، ولم يخلط أوراق روزنامتها الحاليّة بماضيها، بل كان ذاك الطبيب اللطيف الّذي انتزع ورمها الخبيث وشفاها.
كذلك أراد شفاء سمعان الفرّيسيّ، فدخل إلى أعماقه كي ينتزع منه الجواب، ونجح. فأدرك هذا الأخير خطيئته، ولم يكن يعلم أنّه بجوابه هذا، قد أدان نفسه بنفسه، ففهم، بعد الصدمة، أنّ السؤال الأصحّ ليس “من الّذي خطئ أكثر؟” بل “من الّذي أحبّ أكثر؟”، بمعنى أوضح: من الّذي تعرّف حقًا إلى عظمة غفران ومحبّة الله في حياته؟لقد رغب يسوع من سمعان، أن يدرك عدم جدوى التظاهر بالبرارة، وتعظيم خطيئة تلك المرأة التائبة. أراده أن يدرك عدم جدوى التفاخر بما ناله من متطلّبات الحياة في النِعم الأرضية وحتّى الروحيّة منها، أمام تلك الّتي سلكت الدرب الوعرة والمعوجّة، لأسبابٍ نجهلها… آفة التفاخر تلك، تلغي تبكيت الضمير عند اقتراف الخطأ، فلا تعد الخطيئة تسبب مشكلة أو عبئاً على المتكبّر. ففرّيسيّين كنّا أم خطأة، مرسلين أم متنسّكين، ما من سلامٍ داخليّ دون رحمة الآب وصحوة الضمير.
اليوم أصبحت الخطيئة عظيمة إلى حدّ التفلّت والفحشاء، ولا من يكترث!

فهل تحرّر العالم من الضمير، ومن مخافة الله، فأصبح يعدّ الخطيئة مجرّد وهمٍ، لا أساس له في الحياة المعاصرة؟ هل توافقني أنّ نتيجة ذلك، يعني نكران النّور الّذي، وحده يستطيع أن يكشف ويشفي مرضنا الروحيّ؟
لنثق أنّه في هذه الفسحة يلتقي بؤسنا وخجلنا مع رحمة الآب. إنّها فسحة لقاء الحبيب، وتذوّق الحبّ الإلهيّ الحميم. هناك تُعاد إلينا فواتير الدّين كلّها، ممهورةً بخاتم يسوع :” لقد سُدِّد بالكامل…يسوع”.
أيها الحبيب، دلّني طريق التواضع الحقّ، طريق القلب، واحرق بنار حبّك، غروري، وكبريائي، وتمحوري حول ذاتي. أشعل قلبي بحبّك، فأنشد القرب منك، والرّاحة في حضنك ليل نهار، آمين.

جاكي جوزيف ضوميط