توبة زكا العشار
إنسان يعاني من عقدة نقصِ قصر القامة ويتألّم من دونيّته، ذهب مدفوعًا للتعويض بشتّى الوسائل، فراح يرفش الأموال المُستحَقّة والغير مستحقّة من النّاس، ظنًّا منه أنّه بذلك سيكسب مكانةً مرموقة ومحترمة في مكانٍ ما عند الرومان. لم يكن يؤمن بكينونته المخلوقة على صورة الله، ولم يكن يستشعر الثقة بالذات إلاّ على حساب تصغير الآخر وغبن حقوقه، فما كان يقطف في كلّ مرّةٍ إلاّ الوحدة ويزداد رذلاً وتهميشًا. الحلّ؟… كان بحاجةٍ إلى من يكسر تلك الحلقة المفرغة في حياته، كان بحاجةٍ إلى التقاء من يحبّه ويعرف كيف يُخْرِج الذّهب من منجم قلبه: كان بحاجةٍ إلى يسوع. مارًّا بتلك النّاحية، هو الوحيد الّذي، على عكس كلّ سكّان المدينة الّذين كانوا يزدرونه بغضّ الطرف وزمّ الشّفاه عند مروره، رفع نظره صوب زكّا. ثمّ ناداه باسمه، ولأوّل مرّةٍ يشعر زكّا بأنّ له كرامة الإنسان. نظرة يسوع إليه ردّت له الجوهرة الثمينة المفقودة الّتي لطالما بحث عنها في كل ما ارتكب من حماقاتٍ وأخطاء دون أن يجدها. لقد بدأ يتلمّس صورة سماء وجه يسوع تنجلي داخله : لقد وُلِد من جديد، وأشعّ وجهه فرحًا.ألسنا غالبًا زكّا في “قِصره”؟ في كلّ ما يتعلّق بإيماننا، بأمانتنا، بإرادتنا الخاضعة، عن جهلٍ، إلى رغباتنا وميولنا البشريّة؟ ألا تقف هذه العاهات حاجزًا بيننا وبين المشروع الخلاصيّ لكلّ إنسان؟
لقد تسلّق زكّا الجميزة وهو الرئيس. يا للمشهد المضحك المبكي! يا للسخرية! لكنّه لم يأبه لمن حوله بل كان همّه الخلاص. في أعماق نفسه كان يختلج توقٌ إلى من ينتزعه من هذا الجحيم الّذي يحترق فيه وحده بمرارة، على عكس ما كان يظنّه النّاس.
لم يأبهوا يومًا إلى مشاعره الإنسانيّة، فألبسوه ثوب العار المخطَّط وعلّقوا على ظهره “رقم” علّته كالسجناء، ولربّما كووه بنارهما كي لا يفلت من هذا السجن المؤبّد كما العبيد في العصور الغابرة. شجرة الجميزة تلك كانت أرحم منهم، لقد حملته لكي يراه يسوع فيدعوه هو القادر، يعلم ما بداخل الإنسان ويعرفنا بأسمائنا، ويرانا إن كنّا وراءه أو على الجميزة أو في زوايا المخادع…، بل كي يرى النّاس ما يجيش في أعماقه من ألمٍ وتوقٍ إلى الشفاء. لقد تخلّى عن كرامته وكبريائه وأنانيّته المفروضة عليه، وتسلّق بحماس أطفال الشوارع، وفرِح مثلهم.
في كلمة يسوع لزكّا، إكتشف أنّه ليس ضيفًا ينتظر الإحتفالات العظيمة لاستقباله، ولا ذاك الّذي يريد الجلوس في الصدارة ولا في صالونات القصور، بل هو الصدّيق الّذي يرغب في دخول بيوتنا على اتّضاعها، على أنّه من أهل البيت فنستقبله بفرح، ونؤمّنه على التّنقّل في كافة أرجائه بحرّية. هو الّذي علينا اطلاعه حتّى على زوايا نفوسنا السرّيّة، الحميمة، الوجوديّة، حيث لا نسمح لأحدٍ بالنظر إليها لكثرة ما تراكم فيها من غبارٍ وأوساخ ٍوعفنٍ، لأنّه وحده القادر على تعقيمها وترميم ما تضرّر منها وترتيب هيكلها، ثمّ إعادتها إلى الحياة معافاة، ذات قيمةٍ حيويّة، فرِحة.
فنزل واستقبله بفرح. نزل إلى الأرض وتخلّى عن التطلّع من فوق، تخلّى عن حِيَله ومكره، عن أنانيّته وكبريائه الّتي اعتقدها تُرفّعه عن الآخرين. لقد شعّ وجهه بالفرح وامتلأ غبطةً، فأسرع بالنزول عن شجرته، هو، ذاك الرّجل القصير القامة الّذي أراد على الدّوام أن يكون كبيرًا، نزل كي يلامس الأرض بمفهومٍ جديد: لقد تواضع. لقد أدرك أنّ هناك فقط وفقط على هذا المستوى يبدأ التحوّل الجذري في حياة الإنسان، ولقد حدث ذلك فعلاً. بفعل يسوع الإنسان الّذي أراد أن يأكل ويشرب معه، الإنسان زكا تحوّل. بيسوع الإنسان عاش السّلام المُرسل من الله، وهذه الخبرة قد حوّلته.
إنّ يسوع لم يتحفنا بالكلام المنمّق والوعظ الجميل كي نتوب، بل أجرى الجراحة اللازمة لاستئصال مرض، التعويض عن النّقص والضّياع وال”الكنفشة” والأنانيّة، مستخدمًا مِشرط التواضع والحبّ اللامحدود. ولقد نجحت بامتياز.
لقد شفي زكّا. لقد شعر بأنّ يسوع لم ينظر إلى ما كان عليه من شرّ بل قبِلَه كما هو، وتنبّه إلى قيمته كإنسان، فإنّه لم يعد بحاجة إلى جذب الأنظار إليه بجمع المال الحرام، ولا بالمراكز: لقد تحرّر من هذا العبء، فأعلن بعفويّةٍ ندامته، بتعويضه على كلّ من ظلم نصف أمواله بفرح. لقد بدأ مسيرة درب الحبّ دون أن يفكّر كثيرًا، لأنّ من يتوب معتمدًا بالتواضع والإيمان بيسوع االخلاص، يلبس الحبّ، وينطق بالحقّ، وتفيض ثمار الرّوح غنيّة ً فيه.
فيا ربي وإلهي … أسعِدْني بدخولك على قلبي كما أسعدت زكّا العشار عندما دخلت بيته، أَسعدْني بسماع صوتك، أَسعدْني بالتعرّف عليك، أَسعدْني بخدمتك وإكرامك وحسن ضيافتك. بيتي المتواضع لا يليق بك ولكنك تجعله قصرًا بوجودك. بيتي المتواضع أُقدّمه مسكنًا لك؛ تملّك عليه فأُصبح أنا هو الزائر، فيُهيء كلانا الطعام للآخر: أنا أُهيّء لك الطعام: إذنٌ صاغية وقلبٌ منكسر لتتعشّى معي، وأنت تُهيّء لي الطعام: الحمل الذبيح وكلمتك وما أعْدَدْت لي لخدمتك فأتعشّى معك وأشبع. سبحانك يا رب ما أشهى مائدتك، أشكرك على الدوام. آمين.