رعيّة رشدبّين

من هو هذا الإله الذيّ لم ينظر لحظةً إلى الوراء ولم يُدِن أحدًا

فلمّا علِم يسوع (بما يخطّطون له)، إنصرف من هناك، فتبعه جمهورٌ كبير فشفى مرضاهم، وأمَرَهم ألاّ يخبروا أحدًا” (مت١٢: ١٥-١٦)

من هو هذا الإله الذيّ لم ينظر لحظةً إلى الوراء ولم يُدِن أحدًا، لم يحقد ولم ينتقم من كلّ الّذين نفّذوا أو حاولوا قتله؟! يسوعُ هُوَ! لقد غفر لهم وشفى مرضاهُم وحرّرهم من أثقال الخطايا المُهلِكةِ لنفوسهم، والمُشوِّهةِ لصورةِ الحبِّ فيهم. إنّه المخلِّص حقًّا. بفيْض الحبّ والنور، حرَّرهم من قيود العبوديةِ لِفِكْرةِ “العين بالعين والسنُّ بالسنّ” مُطلِقًا إيّاهم إلى الحرّية الحقيقيّة، تلك التي لا نُدرِكها إلاّ بالمسيح.

نبؤة أشعيا الّتي تحقّقت في يسوع: “هذا هو فتايَ الذيّ اخترته، سأفيض روحي عليه فيُعلن للشعوب إرادتي” شهد بها متىّ الرسول بعد أن عايَنَ كلّ ما فعله يسوع، كما شهد قبله يوحنا المعمدان، الزاهد بالعالَم، بِوَحي ٍمن الروح ، على ضفاف الأردن “هذا هو حمل الله” قبل أن يعلنه الآب للعالم: “هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت، فله اسمعوا”… ومشى التلاميذ وراءه… وتبِعَتهُ الجموع…

هل مازلنا نسمع تلك الشهادات اليوم؟ هل آذان قلوبنا تقبل أن تسمع، أو ألسنتنا أن تشهد؟ إن هذا الصوت اللّطيف، الهادىء، هو كلمةُ حقٍّ أبديّة، في الأمسِ واليوم وغدًا. تَحيا في سرّ إيماننا، دون “صنج ٍ يرنّْ” إن جرس يرنّ في الساحات أو ينادي على السطوح. إنه في الأعماق يهمس، ويلامس الوجدان والقلب بلطف السماءِ وسلامها، كي يوقدَ في النّفس الرجاء ويُحْيي الإيمان الناعس فينا: “لايخاصم ولايصيح، وفي الشوارع لا يسمع أحدٌ صوته…” (آ: 19). وما زلنا نتساءل إن خَمَدَ ذلك الصوت!!!

إن كناّ نؤمن أن “السماء والأرض تزولان وكلامَهُ لايزول”، يعني أنّه ينبغي لنا أن نؤمن بما قاله وأن ندعَهُ يتحقّق في العالم : فكم من المَمالِك والملوك قد اندثر عن وجه الأرض؟ وكم من الحروب أبكَتِ الرّجال وأثْكَلَتِ الأمّهات ويتّمتِ البنين، ثمّ انتهت وأصبحت في طيّ النسيان؟ كم امتلأتِ الساحات بالورود وتزيّنَتْ بالشرائط “الحمر والبيض” والأعلام لعيدٍ أو لفاتح ٍ أو لرئيس ٍ أو لشابٍ مُرتَحِل… واليوم ابتلعتها الأياّم ولم يبقَ منها إلاّ الذكرى والصوَر؟!… حتى الكوارث الكبرى والأحداث العالميّة لَمَعَت في حينها كوميضِ برقٍ ثمّ تناثرت مع الريح ولم يبقَ منها اليوم إلاّ الصدى يُسمَع في آهةٍ مُتحسّرة أو ضحكةٍ تترنّح مع الأثير؟ كم من صرخةٍ تدوّي في أرجاءِ الدَار كل يوم معلنةً ولادةََ حياةٍ جديدةٍ سرعان ما تكبر، تفرح، تتألّمْ، تُحبّ، تناضل ثم تشيخ وتموت… إلى حفنةٍ من ترابٍ يضيع، حتى، مقرُّها مع الأيام؟!

كلّ ذلك سمعه ورآه الآب ومازال يفعل. إنّما تلك الرقرقة الناعمة في الكيان، تلك الكلمة اللطيفة كانت وما زالت وسوف تبقى تناديك وأنت في غمرَةِ أفراحِكَ وأتراحِكَ، طمأنينتك وقلقكَ، راحتك وأتعابك. إنّها باقية حيّة فيك، “لا تزول”، تزرع الأمل وتعزّز رجاءك بالمسيح المُقيم في بيتك. تلك الكلمة تذكّرك أن الله معك كي يقودك إلى الحقّ والخير، فتتصالح مع ذاتك، وتتجدّد حياتك ويكبر الحبّ فيك، فتفيض بنور يسوع. عندها تفهم أنّك أصبحتَ بذاتِك، صوته في العالم، فتُعلِن مجده من خلال حياتك اليوميّة وتعيش نبؤة أشعيا، عاملاً على مساندة النفوس الضعيفة، مُجَبّرًا القلوب المنكسرةِ والبائسة، “فلا تكسر قصبةً مرضوضة”. وبدل أن “تُطفىء الشّعلة الذابلة” تنفخ فيها من روح أبيك الّذي فيك، فيَتوهَّج الحبّ الّذي يخمد، مُشِعًّا بنور الله في قلبِ العالم.

جاكي جوزيف ضوميط