رعيّة رشدبّين

حقلٌ شاسعٌ

في جوار منزلي حقلٌ شاسعٌ، أرضه مخصبة ومياهه تنتظر أن تنساب حياة في ترابٍ أَسْمَعه يبكي في “وَحِيح الهشير” الأصفر حيث لا حياة ولا أخضر ولا ثمار! كلّ عناصر العطاء توفّرت فيه، لكنّ أحدًا لم يقلب التراب ويهيّأه، ولم يطمر فيه بذار الخير. فمِن أين تأتي الثّمار وتستمرّ الحياة؟
ما أجمله من حقلٍ بانت حبّات القمح فيه رؤوسها في كلّ مكانٍ، تتطلّع في كلّ إتّجاهٍ تبحث عن اليد الّتي سوف تغمرها لتنقلها إلى حيث تخلع عنها ثوب القشّ الهشّ، لتدخل مسيرة الإيمان إلى أن تصبح خبزًا جوهريًّا على مائدة الربّ المقدّسة.كما في الماضي كذلك اليوم. لم يتغيّر المشهد ولم تتبدّل المعادلة ولا الحاجة الحقيقية للإنسان. ما زالت هناك نفوس مشتتّة وأخرى بائسة أو يائسة، نفوس تبحث وغيرها تتألّم من مرضٍ يأسرها ويرميها في الضياع. كلّها تبحث عن الراحة وسلام القلب. كلّها عطشى للشفاء وهي لا تدري أنّ الطبيب الشافي هو واحدٌ أحد لا سواه، إنّه يسوع.
أمّا هو فيعرف تمامًا ما الّذي زرعه فيها، ويعرف كم تحمل من الخير داخلها. وكم تتوق إلى التعرّف إليه والدخول معه في علاقة حبٍ عميقة فيها تستريح.
لكن من هي اليد الّتي سوف تغمر تلك النفوس لتأتي بها إلى يسوع؟ أليست كنيستنا هي “كنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة”؟ أليس كلٌ منّا مدعوًّا، بمعموديّته وإتّحاده بجسد المسيح السرّيّ، لأن يكون رسولاً، مثبّتًا بنعمة الروح القدس؟
ليس المطلوب منّا أن نَعِظهم ونروي لهم أحداث الإنجيل، فلربّما كثيرًا ما سمعوها، وخاصّة المسيحيين الغير ممارسين، لكنّها لا تعني لهم شيئًا، لأنّهم لم يلمسوها في حياتهم ولا في حياة من الآخرين.

المسؤوليّة كبيرة جدًا ولكن جمالها يفوق صعوبتها بكثير.
أن تكون رسول المسيح، يعني أن تضحك مع النفوس البائسة حين يضحكون، أن تعمل معهم حين يعملون، أن تأكل معهم وتركض وتبكي معهم حين يبكون. أن تمدّ يدك لمساعدتهم حين يحتاجونك وتقدّم لهم ممّا عندك بحبٍّ مجّاني وتشعرهم بالثقة، أفلست بذلك تأخذ بيدهم وقلبهم وفكرهم إلى المسيح دون “فصاحة” وتكون الرسول؟
الفاعل إذًا هو الشجاع الّذي يتخطّى حدود ذاته إلى حيث اللاحدود، عاملاً بالحبّ، متّشحًا بالتواضع، مملؤًا بالحنان، سالكًا بالفضيلة، محتضنًا كلّ من يبحث عن صدرٍ يسند إليه رأسه، متسلّحًا بالصبر والرحمة كما الربّ هو صبورٌ ورحوم.
أن تكون رسولاً للمسيح يعني أن تتعرّف على نفسك في كماله، أن تغوص في عمق أسراره حتى تصبح مدمنًا عليه، وتعشق حتى الموت أصغر تفاصيله. أن تكون رسولاً للمسيح يعني أن تكون إنسانًا عاشق. انسان يعيش في عالمه الخاص، ذلك العالم البعيد كل البعد والقريب كل القرب من منطق، من خيال، من مثاليّة. منطق، خيال ومثاليّة تختلف أبعادها الكامنة في عيونك عن تلك المترسخة في عقول الأخرين.
أن تكون رسولاً للمسيح يعني أن تكون ذلك الانسان الغارق في بحر السعادة، مغمورًا بذراعي الكمال. يعني أن تُدرك أنك أجمل ما خلقه الله على هذه الأرض. يعني أن تغوص في أعماق مَن كانت الكتابة عنه فخاً لذيذ، فمهما كانت الكلمات عظيمة، تبقى عاجزةً أن تعطيه حقَه الفعليّ من الوصف.
أن تكون رسولاً للمسيح يعني أن تنظر في أعين النفوس الباحثة وتنقل لها شرارة الحبّ الإلهي اللامتناهي، فتغمر تلك الشرارة قلبها لتستفيق من غيبوبتها المميتة. يعني أن تمسك يداً ترتجف لتنقل إليها دفئ الآب الحنون فيتغلغل ذلك الدفء في جسدها المتجمد في صقيع الروح. و عندها ستتذوّق طعم السعادة الحقيقية الناتجة عن عطائك المجّانيّ.

فيا ربي وإلهي، يا أبي السَّماوي القدير واللامائت، يا ربّ الحصاد الَّذي يفرح بخلاص الجميع، الحصادُ كثير والحصّادون قليلون. يا قلب يسوع الأقدس المضطرم حُبًّا لأبنائك، نطلبُ إليك مُتّضعين أن تُزيد في جميع أنحاء المعمورة، عدد الأتقياء الغُيُرِ من الرُسل، فحيثُ الجيفة إبعث النسور. رغِّب ذوي القلوب السخية الطاهرة في وقف أنفسِهم على خِدمتكَ المُقدّسة، وآتهم عونًا فيحل عليهم الروح القدس ويشعل نار محبتك الخالدة بقلوبهم فتعطيهم قوةً بحيث لا تحُول دون رغبتهم عوائقُ العالم والشيطان؛ واجعَلهم من الثابتين على تلك الدعوة السامية إلى الممات. آمين.

جاكي جوزيف ضوميط