رعيّة رشدبّين

مجابهةِ بغير سلاحٍ

عند قراءتي لهذا النّص، شعرتُ وكأنّني أمام قائدٍ يحثّ جنوده على المجابهةِ بغير سلاحٍ، وبطريقةٍ لم نَعْتدْ على استعمالها في الحروب التقليديّة، بل تِبْعَ خُطّةٍ لا تشبه أيًّا من تلك الخطط الّتي عرفناها.
إنّك تشعر بغرابة توصيات هذا القائد، كيف يوصي جنوده، بمواجهة عدوّهم الشرس (الذئاب)، بوداعة الحملان. لا بل أكثر من ذلك، يوصيهم بأن يكون لهم لطف الحَمام وعذوبته.
فماذا تنفع وداعتهم أمام أنياب الذئاب الكاسرة، المتربّصة بهم شرًّا، كي تمزّق أجسادهم، وتدمي أرجلهم الحافية؟
هل كان هدفه أن يُسْحَق تلاميذه أمام أعدائه، دون الدفاع عن النفس، على الأقلّ؟
هذا القائد الحازم، على وداعته، الحكيم على بساطته، القويّ على عذوبته ولطفه، لم يُرِد مطلقًا أن يتخلّوا عن مهمّتهم خوفًا، (رسالتهم) أو يستسلموا يأسًا، ولكن أن يصبروا كي يحوّلوا تلك الذئاب إلى خرافٍ تعود معهم إلى حظيرة الخلاص، بتـظهير نتائج كلّ شّرهم للنور، فيرتاعوا لرؤية بشاعتهم ، ويخجلوا من لطف الله في من يحاولون قتل الروح منهم أو الجسد.
أراد أن يكشف لهم أنّ سموّ الرّسالةِ يكمن في تحويل قلب العدوِّ وروحه إلى إنسانٍ جديد، يؤمن بالحبّ اللامحدود، بالله، لا في سلبه حياته. أرادهم أن يدركوا، على قِلَّتِهِم، أنّ الحبّ والوداعة والحكمة، هي أقوى من جحافل الأعداء بكلّ عدّتها وعديدها! وكانت النتيجة أنّهم فرشوا جهات الأرض الأربع بالسلام، وفرح الخلاص بيسوع المسيح.
اليوم، ألا نخجل، نحن الّذين أصبحنا على شاكلة الذئاب، نواجه، ونستشرس، ونُكشِّرُ غالبّا عن أنيابنا أمام أعدائنا؟ أين ذاك الحمل الّذي وضعه الله في داخلنا، بإفخارستيّا ابنه الحبيب؟ أين روح الحكمةِ الّتي أفاضها فينا، يوم دخلنا الحياة الجديدة، بالعماد؟
هل فكّرنا يومًا كيف أنّ تلاميذًا بسطاء، مرابين، فقراء، أو، منهم من لا يعرف حتّى “فَكَّ الحَرفْ” …. وُهِبوا القدرة على الشفاء وإقامة الموتى، ومجابهة الحكّام ، وكيف أنّ الروح نطق فيهم أمام القضاة والشيوخ؟ كيف أنّهم بثباتهم على الإيمان، وحكمتهم، وشجاعتهم، شَهِدوا حتّى الموت، من أجل المسيح، الربح الأكبر، فهزّوا العروش، وأصغى لهم ملوك الأرض وأباطرتها… ونحن؟ كم منّا، المتعلّم، والمثقّف، و”المؤمن بتحفّظ”، لا يعْرِف من المسيح إلاّ اسمه، ولا من المسيحيّة إلاّ مظاهر الإحتفالات الدينيّة، والممارسات الطقسيّة، وواجب حضور قدّاس الأحد (يا ليته يكون فعلُ مشاركة)، رافعين الصوت مُصرّين على التّغنّي بمسيحيّتنا؟
هم جابوا الأرض من أجل البشارة، صابرين على الألم، محتملين الضيق والمشقّات. ونحن؟ ألا نجوب العالم هَرَبّا من… مُتَناسين أنّ الله قد زرعنا في هذه الأرض كي نزهر، ونثمر فيها، لا لكي نقتلع أنفسنا، إلى حقولٍ تربتها ليست بخصبة، ولا غذاؤها بمُفيد، ولا هواؤها بنَقيّ؟ من منّا يلوذ بالصبر عند الضيق؟ أو يحتمل مشقّةً من أجل البقاء على الإيمان والمحافظة على مسيحيّته الحقيقيّة، لا الصُوَرِيّة؟
هم وثِقوا بالمسيح وآمنوا بالرسالة : “ها أنا أرسلكم” (آ: 16)، فكانت لهم قدرة المعلّم الّذي أرسلهم، وأُعطوا التّعزية، والشجاعة ألاّ يهابوا شيئًا في انطلاقتهم نحو البشارة. لقد أدركوا أنّ “النعمة تكفيهم”، وأنّ تجلّي قدرة الآب في عملهم وإشعاع الفضائل في حياة الإنسان، هما في تكاملٍ لا مثيل له!… ونحن؟ هل تأمّلنا يومًا بهذا السلطان المُعطى لكلٍّ منّا؟ هل انتبهنا أنّ تلك القدرة، وتلك الفضائل كلّها، هي كائنةٌ فينا؟ ولكن، ماذا فعلنا بها؟ أو لماذا لم نوقظها بعدُ، وما زلنا نكبّلها بجهلنا لدورنا كأبناء لله، أو بالخوف أو بالأنانيّة؟ هل نؤمن أنّ لنا بها الغلبة لا محالة، مهما كثُرَت الذئاب؟ هل نؤمن بأنّ الله وثق بنا، فاختارنا للبشارة؟ نعم! لقد اختار كلاً منّا… أنت! من تقرأني، لقد اختارك الآب لرسالةِ الخلاص لأنّه أحبّك، ووثق بك، وأنت لم تنتبه أنّه يحمل مفتاح ذاتك بين يديه: إنّك المعنيُّ مباشرة… كيف؟
بادله الثّقة بتواضعك؛ وكن دائم الجهوزيّة للدخول إلى أعماق ذاتك، فتطهّر قلبك بتخلّيك عن كلّ تعلّقٍ خارج المسيح، سبب ابتعادك عنه، وهجرك لذاتك المخلوقة على صورة الله ومثاله. كن شاكرًا لسُموِّ صداقته لك وجمالها. كن شاكرًا لاختياره إيّاك عاملاً مسؤولاً في حقل البشارة (أيًّا تكن، ومن حيث أنت). كن سخيًّا في عملك دون خوفٍ من فقدان الصغائر، من أجل الربح الأكبر.
لقد أحبّك حتّى الثمالة، ورفعك، كي تليق بك السماء فابتهجِ الآن وانطلق، من ذاتك أوّلاً، مؤمنًا واثقا، لأنّه قد فعل وأرسلك…
جاكي جوزيف ضوميط