رعيّة رشدبّين

ظهور الرّب الثالث للتلاميذ

هو ظهور الرّب الثالث للتلاميذ، وهذه المرّة على شاطئ بحيرة طبريّة، مكان اللّقاء الأوّل والدعوة الأولى.  عاد الى حيث جعلهم تلاميذ منذ ثلاث سنين، عاد ليعيدهم الى حقيقة التتلمذ له، ليدخلهم من جديد، رغم خيانتهم وشكّهم ونكرانهم، الى حالة الصداقة معه والى المصالحة مع الله الآب.
على ضفاف تلك البحيرة كانت خواتم اللقاءات الحسّية مع يسوع القائم من بين الأموات. على ذلك الشّاطئ تَكشَّفَت صورة الحبّ الّذي لا يُروى في القصص ولا يُصَوَّر في الأحلام، بل ذاك الّذي لا يموت في النّفوس النّابضة بالحياة، فيتعرّف، مهما كانت الأحوال، على مانحه.في تلك النّاحية، إختلجت القلوب من جديد أمام الهويّة المُستعادة، بعد موت الحبيب. هؤلاء الرجال الصيّادين، وبعد أن تبخّرت أحلامهم ، وأُحبِطت عزيمتهم وثقلَت أذرعهم للعمل مجدّدًا في جمع الأسماك، إضطربت قلوبهم في تلك اللحظات، وكُشِفت لهم الأوقات الصّعبة الّتي زلّوا فيها عند رؤية محنة السيّد والمعلّم يتألّم، وخافوا فهربوا، وشكّوا فطلبوا الدّليل كتوما، ونكروا فتألّموا وبكوا خطيئتهم، أعني بطرس الّذي ما إن تعرّف إلى يسوع عند البحيرة حتّى أيقظت فعلته النّدم والخجل فألقى بنفسه في الماء متَّزرًا بثوبه، ساترًا عريه، على عكس منطق الّذي ينزل إلى الماء، مذكّرًا إيّانا بآدم وحوّاء يوم كشف الله لهما شرّ فعلتهما، فتبيّن لهما عريهما للمرّة الأولى، وشعرا بالخجل والحرج لأنانيّتهما ولِنكرانهما الحبّ الّذي كلّلهما به الخالق… فهل كان لبطرس الشّعور إيّاه؟
هناك وفي ذاك الصّباح، بدا يسوع مختلفًا. في هالةٍ من الصّمت الجديد المُزدان بالقليل من الكلمات، إقترب من تلاميذه. بحركةٍ واحدة وصوتٍ ينسكب كالعشق في النفس الولهانة، “أخذ الخبز وناولهم”. دون قيدٍ وشرط أو كلمات ذكّرهم بإعطائهم ذاته قوتًا حيًّا. أعطاهم الحبّ الكامل بالكامل.

ربّما الصرخات انحبست في أفئدة التلاميذ يومها لأنّ الفرح كان أعظم من دويّ الحناجر. فقط تردّدت كلمتان على ألسنة الأحبّة منذ القيامة:”ربّي وإلهي”، “رابّوني”، “هذا هو الرّب”. باختصارٍ كلٌّ صَرَخَ بصمتٍ في قلبه المتأجّج: “هذا أنت ! أنت الحبيب الرّب!”.
كلّ تلميذ منهم كان يأمل أن تطول لحظات التقاء يسوع الرّائعةِ، تلك الهاربة نحو السّماء من محسوس الأرض إلى عيش الكلمةِ في عالم عطشٍ للحبّ والسّلام وما زال… الوقت حان للرحيل والرّسالة ليست مسامرة عند طلوع الفجر ولا جلسة حميميّة مع أصدقاء فقط، إنّما هي ارتشاف نور الحياة من شمس صّباح الألوهة، وزوّادة إفخارستيّا لمسيرةٍ نحو أعماق بحار العالم حيث الشّعوب على اختلافها كسمك البحر، تنتظر شبكةً لا تتمزّقَ كي تنتشلها من غمار أمواج “الأقوى بقوة ذراعه ونفوذه وماله وحيلته” إلى برّ الأمان والخلاص.

ومن تراه يجذب تلك الشبكة من جديد؟ بطرس المندفع! بطرس الّذي فيك وفيَّ، بطرس الّذي يسمع بنا الحبيب يهمس بنفحةٍ حزينةٍ لمرّاتٍ ثلاث وأربع وأكثر:” …، أتحبّني؟”. فأيّ ملك تراه يسأل (“أتحبّني؟”) بعيدًا عن لغة الدساتير وأفعال الأمر: “أحببني وإلاّ…!”؟ بالمقابل ما هو جوابنا له؟
عساه أن يكون مثل بطرس أيضًا: “أحبّك”، “يا ربّ، أنت تعرف كلّ شيء، وأنت تعرف إنّي أحبّك”. جوابه كشف له الذات الضعيفة، وجعله يقرَّ بقدرة الحبيب على سبر غور النّفس ومعرفتها.
اليوم يدعونا يسوع أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى مسيرة حبّ أبديّة، فما من حياةٍ تستطيع الإجابة بالمطلق على سؤال يسوع لكلٍّ منّا: “أتحبّني؟”.

جاكي جوزيف ضوميط